الباكون من الضحك!

أحمد علي هلال

بأصابع قلقة ربّت على كتفي، استدرتُ وأنا أغمس كلماتي بمنقوع دهشتي، ليسألني من دون تردّد، قال: ما تعريفك للضحك، ودعك من تأويلات، ولوغاريتمات، وخوارزميات لا أحتاجها؟

قلت: أبسط تعريف للضحك هو أن تبكي من الضحك فقط!

قال: هكذا الأمر إذن ببساطة البحث عن شعاعٍ من شمعة مفقودة!

قلت: وأكثر من ذلك إن أردت، وإذا سألت هل ثمة بكاء يكفي جميع البشر؟ لأجبتك بسؤال: أهناك من الضحك ما يكفي جميع البشر؟

لكن الضحك الذي يندلق من الشاشات، ويكاد يقتلنا من الملل والسأم حينما يذكّرنا بأن نضحك من قلوبنا، والتي يبدو أنها لا تشاهد أنهار الدم المنبجسة أسفل الشاشات، أصبح الضحك عالماً افتراضياً، فكيف بوسعنا أن نتخّيل أنه في مكان ما «إن أحد الرجال قتل كلباً، لكنه لم يجد أيّ لحم لسلخه عن عظامه، لأن الكلب ذاته كان هزيلاً من شدّة الجوع»، وأن رجلاً التهم خلال سنتين خمس عشر قطة، كان قد تبنّاها، فهل تتغيّر اللغة هنا، ليقوم مقامها على شكل: وأجهشت في الضحك، مثلاً؟!

وحين كان يأتي الشاعر محمود درويش لزيارة الشاعر سميح القاسم في منزله في شارع يافا يصرخ درويش: «أريد أن آكل… أنا جائع»، فيهدّئ صديقه القاسم من روعه قائلاً له: «لا بأس عليك، إنني متضامن من معك، ضع جوعك إلى جانب جوعي وسنحظى بوجبة فاخرة»!

لكن سميح القاسم يردف قائلاً: «اِضحك يا ولدي اِضحك… اِبكِ يا بني اِبكِ»، وعثرت في إحدى المدونّات عن تعريف طريف للقناعة يقول: «كم كريمة هي القناعة فهي كفيلة بأن تملأ أحشاء سكان أشدّ الأكواخ بؤساً في العالم زادهم عمراً كاملاً».

أطعم مسكيناً أعِل يتيماً قلنا للدولار يضيف صاحب المدوّنة، وهو يرى أن «التفاهة» كانت نكتة سمجة لم تكن تروق لأحد، ولّدت تفاهات كثيرة بعد أن فاجأها المخاض في إحدى الزوايا المنسيّة من بقاع المدينة تحت لوحة نيون عريضة تعلن عن مشروب لا طعم ولا لون له.

وعليه، فهل تولد تلك السياقات ما يجعل من الضحك بكاءً ومن البكاء ضحكاً؟ وبطبيعة الحال لا نقصد هنا الميل إلى الكوميديا التي اندثرت أو هي في طريقها إلى الأفول لتولد كوميديا أخرى متطيّرة من فضاءاتها السوداء أو الرمادية أو قل ما شئت واسعة الطيف.

أن تستدعي الضحك في لحظة فارقة، هو أن ترغم زهرةً صباحيةً على أن تتجرّع الندى، وأن ترغم عصفوراً على انتشالك من وهدة النسيان، لطالما كان يرسم خطّ الأفق. فطيور اليأس التي قيل إنها تنقر الرؤوس لكنها لا تستطيع أن تلتهم الأفكار قد غادرت توّاً ولم تعد تطلّ على أفقٍ بعيد، لأن البكاء قد علّمها اختزال خيالها، ليبقى الضحك مجازاً جميلاً ما زلنا نفكّكه عشية كلّ دمعة عابرة، ونفكّك معادلته المؤسية في شكل أيامٍ يختلط بها الضحك والبكاء معاً، لكأنها تراجيديا شكسبيرية مفتوحةً على الدوام لم تنتهِ بموت مؤلّفها، حسبها أنها تبتدئ لتقود المفارقات إلى مفارقاتها. فقل لي إذاً، من أين يبتدئ الضحك وإلامَ يأخذنا البكاء؟ فالباكون ضحكاً قد أدركوا أن ترنيمة آخر الوقت تجيء ليعلن الصباح أنها مفارقة فحسب، ومع ذلك لا أعلم حتى الساعة ـ كعادتي ـ لماذا ألقى غزالٌ نفسه من علٍّ في مكان ما على هذه الأرض؟ فهل كان يدري أن دمه قد أصبح مشاعاً؟ وأنه قد أرهبته لغةٌ لطالما فُتنت بسؤال الدم، ومضت إلى حصة أخرى من غزال منتظر؟

مهلاً لن يستنفد الضحك لطالما هناك شفاه غليظة قد تستوفي ضحكها من الأقدار. ولن يستنفد البكاء لطالما هناك أنهار تكاد تنبجس من صخور الوقت لتسيل على وجهه المتجهّم والذي لن يشبه وجوهنا مهما استطاع إلى ذلك سبيلاً. فهل تنفع مهرجانات لمحو ما تركته السياسة من ندوب في أرواحنا؟ يتساءل باكٍ، ويضحكُ آخر ولعلّهما يجتمعان في «الباكون من الضحك»!

ناقد وكاتب فلسطينيّ سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى