القصور الديمقراطي في الغرب: بريكست بريطاني وفريكست فرنسي
د. رائد المصري
سلسلة الهزَّات الارتدادية للنظام الرأسمالي العالمي المعولم التي انعكست على المنطقة العربية منذ العام 2011، لكونها الحلقة الأضعف في هذه المنظومة المتهاوية، كشفت أزمة عميقةً وبنيوية في هيكلية النظام الديمقراطي الليبرالي على المستوى العالمي. ولا زال يُعبِّر عن نفسه بين الحين والآخر في تحرُّكات ومظاهرات واحتجاجات وعصيان في دول العالم كلّها وأوَّلها أوروبا وأميركا ذات المؤسسات الديمقراطية القوية والعريقة، تنديداً بالأوضاع الاقتصادية وعدم المساواة بين الطبقات الاجتماعية التي أحدثها طمع بنوك المال والشركات المتعددة الجنسيات وتحكُّمها بمصالح الشعوب ومستقبلها. فهذه الاحتجاجات على البطالة وإجراءات التقشُّف الحكومية وخفض النفقات العامة، كشفت كذلك عن أزمات بنيوية متجذّرة في المجتمعات الغربية توضح العجز في الأداء الديمقراطي لهذه الدول، وتَمثَّل ذلك في ضعف سلطة البرلمان الأوروبي، ووجود هُوَّة بين السياسيين الأوروبيين والرأي العام، حيث ظهر مؤخراً في حالة التخبّط في اتخاذ القرارات السياسية السليمة لدول الاتحاد وهيستيريا الهلع والخوف من المستقبل.
فرئيس وزراء بلجيكا السابق ومفاوض الاتحاد الأوروبي جاي فيرهوفستات يقول إنّ ترامب يمثل التهديد الثالث للاتحاد بعد روسيا البوتينية والتطرُّف الإسلامي، وإنَّ إدارة ترامب عازمة على تفكيك الاتحاد، وهي تدفع باتجاه إعادة تنظيم أوروبا حول الهويات القومية في قارة قدّمت عشرات الملايين من الأرواح بسبب القوميات وسياسات التطهير العرقي.
فتوجيهات ترامب واضحة صوب الاتحاد الأوروبي، وهو الذي دفع الخروج البريطاني منه ودعمه ويتمُّ التمهيد لوصول سياسيين من اليمين في الانتخابات الأوروبية المقبلة، فها هي مرشحة اليمين الفرنسي مارين لوبين التي وعدت في حال فوزها بعمل «فريكست» أيّ استفتاء فرنسي حول البقاء في الاتحاد الأوروبي على نسق «بريكست» البريطاني الذي أخْرَجَ المملكة المتحدة منه السنة الماضية.
إذن، فأساس الأزمة يعود إلى طبيعة النهج السائد في ممارسة العملية الديمقراطية في الغرب عبر ممارسة ما يُسمَّى باللعبة الديمقراطية الليبرالية، إن صحّ التعبير، والمرتكز في مفهومه على الانتخابات وفكرة تداول السلطة وتقوية مؤسسات المجتمع المدني، وذلك من دون الأخذ في الاعتبار حسابات الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها شعوب هذه الدول.
وعليه فإن مدخل ممارسة الديمقراطية الغربية ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالصراع السياسي والاقتصادي بين الرأسمالية والشيوعية أو الديمقراطية الاشتراكية والتي حُسِم الصراع بنتيجته بانتصار المعسكر الغربي وقاد إلى تبعية في سيادة مفهوم الليبرالية المرتكز على المنافسة من دون النظر لاعتبارات العدالة الاجتماعية والاقتصادية. وهذا المنهج الديمقراطي عند الغرب ارتبط بأجندات سياسية اقتصادية لدوله ترأَّستْه الولايات المتحدة، حيث استمدَّ شرعيته وشرعية نظُمِه السياسية منذ التاريخ الحديث إلى اليوم من خلال مقارنته بالآخر. وهو ما أعطاه فرصة الاستفادة من الصراع السياسي والإيديولوجي مع المعسكر الاشتراكي لتحقيق الأهداف. وبهذا استطاع هذا الغرب وبطريقة مشوَّهة أن يُشكِّل حالة خاصة ونموذجاً مزعوماً للحرية والازدهار والتعددية.
من هنا بدأ الربط في مجال التنمية والديمقراطية وما بين الدخول في العملية الديمقراطية للبلدان الفقيرة والانبهار بنموذج الليبرالية الجديدة في الاقتصاد من دون التنبُّه للعملية الديمقراطية المتمثِّلة في حقِّ التصويت والترشُّح والتنافس والانتخاب الحر، وأيضاً إهمال آثارها الاقتصادية ومستويات التنمية الاجتماعية. وهو ما أدَّى مذاك إلى فصل في عملية الديمقراطية المشروعة عن موضوع العدالة الاجتماعية وتوزيع الموارد الاقتصادية، فانعكس سلباً على مستوى الحريات والحقوق السياسية في الدول. فالشروط السياسية التي خلقها هذا النظام الليبرالي لأجل المنافسة على مراكز صنع القرار جاءت منقوصة وشروط العدالة معدومة فيها في توزيع الموارد المادية من دون تكافؤ بين طبقات المجتمع، وظهر جلياً في النظام الرأسمالي الذي يُعزِّز مع الوقت تفاوت كبير على المستوى الاقتصادي الاجتماعي والطبقي كذلك، ما ينعكس على اللُّعبة الديمقراطية عبر تقييد الحريات السياسية للغالبية من أفراد المجتمع وحرمانهم من المنافسة في العملية الديمقراطية على أسس متكافئة مع النخب التي تمثِّل مكانة مرموقة وكبيرة في الاقتصاد، وتكون نتيجته انعدام العدالة في المنافسة الانتخابية وعدم الحصول على حقوق سياسية متساوية في هذا النظام، حيث إنَّ النخب السياسية الممتلكة للنصيب الأكبر من الثروة هي الأكثر نفوذاً وتأثيراً في مراكز صنع القرار في الدولة، وبالتالي الأكثر مقدرة على حسْم نتيجة المنافسة الديمقراطية لصالحها، وهذا يقودنا إلى أنَّ انعدام التكافؤ في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يؤدِّي بدوره إلى انعدام تكافؤ في الحقوق السياسية بين أفراد المجتمع وتتحوَّل معها العملية الديمقراطية إلى شكْل مشوَّه ليس له أي مدلول حقيقي.
هذا الانفصال بين الحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية الاجتماعية هو ما شكَّل جوهر الأزمة التي شهدتها وتشهدها ديمقراطيات الغرب والتي تعرَّضت من خلالها الطبقات المتوسطة والفقيرة للضغط والتقشُّف جراء تطبيق هذه السياسات الليبرالية الجديدة التي نتجت عنها أزمات مالية واقتصادية أدَّت إلى توسُّع الفروق الطبقية بشكل كبير.
فالأزمة ليست في الديمقراطية كنظام سياسي، بل في المنهج الديمقراطي الليبرالي المتوحِّش الذي تمَّ تطبيقه تماشياً مع صيغته الليبرالية الجديدة التي أفرغت الديمقراطية وعمليتها من مضمونها الحقيقي وجعلتها غطاءً سياسياً لتحقيق المصالح الاقتصادية للأوليغارشيات المالية وللشركات المتعدِّدة الجنسيات على حساب الشرائح الفقيرة في المجتمعات. فالدور الحقيقي لأيِّ نظام رأسمالي هو توسيع وتكبير حجم الحصة الاقتصادية لتصل إلى جميع فئات المجتمع بشكل متساوٍ، وهو الدور الذي سقط من حساب أرباب هذه النظم المشوَّهة عبر عملية التحويل أو التشكل الجديد في عملية التحوّل الاقتصادي، لتصبح اقتصاديات تابعة من دون قوى إنتاج وبلا مقدرة على التشغيل للملايين العاطلين من العمل، والليبرالية الاقتصادية أدَّت كذلك إلى تدمير كل ما بُنيَ في الزراعة والصناعة وتوسَّعت في النشاط التجاري والمالي والخدمي، فلم يَعُد هناك ما يُنتج، إضافة إلى التوسُّع في الاستيراد وخروج المال لسداد أثمان السلع المستوردة.
هذا التحوير في الواقع الاقتصادي لم يكن صدفة، بل جاء نتيجة وجود فئات طبقية تبوَّأت مراكز في السلطة وأرادت أن تثري بكلِّ الطرق الممكنة، فراكمت الثروات من خلال نهب القطاع العام والسمسرة لطفيليات تربَّت على حواشي الأنظمة وسلطاتها السياسية المؤسَّسة على التزاوج والتفاهم مع الليبرالية الاقتصادية المعولمة والتي لعبت دوراً كبيراً في تغيير عميق لبنية الاقتصاد ولتضعف دور الدولة الاقتصادي ورعايتها الاجتماعية، وأن تنشط في قطاعات الربح السريع كالبنوك أو السياحة أو العقارات، وبهذا كان النَّهب يتزايد عبر ممارسة الرأسماليين الاحتكاريين وتسهيل الدول لهذه الأنشطة، حتى باتت هذه الطبقة تأخذ الطابع الاحتكاري المافياوي، لأنها خضعت لمنطق شركات الاحتكار ولطُغَم المال المافياوية.
فرض هذه السياسات تمَّ من خلال برامج الإصلاح الاقتصادي والتكيّف الهيكلي المزعوم وهو أدَّى إلى إفقار الغالبية العظمى من شعوب بلدان الغرب وأميركا، حيث تدهور مستوى الحريات السياسية فيها نتيجة تصاعد حدَّة الغضب الشعبي تجاه هذه السياسات ولجوء حكومات الغرب إلى قمعها بأشكال عنفية مختلفة…