بوابة الجنوب السوريّ بمفتاح القدس

سومر صالح

من الخطأ قراءة راهنية مستجدات الأزمة السورية اليوم ببيئة سياق «أستانة 1» قبل شهر تقريباً، فما بدا أنّه إطارٌ محكمٌ وفعالٌ لإيجاد خرقٍ في مسار الحلّ السياسيّ في سورية عبر ترويكا إعلان موسكو، سرعان ما تغيّر، فلم يكد يمضي يومان على مخرجات «أستانة 1»، حتى أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً «بإنشاء مناطق آمنة في سورية». حدثٌ كان كفيلاً بتشتيت القوة الدافعة لسياق أستانة الذي بدا أنّه يسير نحو رسم توازناتٍ إقليميةٍ من الساحة السورية، وأنّ اللحاق به بات خياراً واقعياً، بل ملحّاً، لأيّ دولةٍ إقليميةٍ ومنها الأردن القلق من تنامي النفوذ الداعشي على حدوده الشمالية وتنامي النفوذ القاعدي أيضاً، تزامناً مع أحداث أمنية داخلية تعتبر إشارات إنذار للاستقرار في الأردن، فكانت زيارة الملك عبدالله الثاني إلى موسكو بعد يوم واحد فقط من مخرجات أستانة 25/1 للحاق بهذا السياق طارحاً إلحاق «الجبهة الجنوبية» بمسار «أستانة». وحضر بعدها اجتماعها الفني بصفة مراقب، استجابةً لدعوة وطلب روسيين.

من الصعوبة بمكان معرفة ما إذا كانت المقاربة الأردنية جاءت بطلب سعودي لتطويق النفوذ التركي وإخراج الجبهة الجنوبية من الحسابات التركية وهو ما يعني حضوراً سعودياً في سياق أستانة بواجهة أردنية، أم أنّ المقاربة الأردنية كانت نتيجة قراءة داخليةٍ حفّزتها المتغيرات الميدانية السورية بعد معركة حلب والمخاطر الأمنية الداخلية بعد أحداث «الكرك» ما جعل خيار التنسيق الأمني مع دمشق أمراً ضرورياً ولو عبر البوابة الروسية، وقد يكون الاحتمالان متقاطعين فالحاجة الأردنية إلى التنسيق الأمنيّ مع دمشق تزامنت مع حاجة سعودية لوقف التمدُّد التركي إقليمياً على حسابها انطلاقاً من الأزمة السورية. إذاً جاءت الزيارة الأردنية إلى موسكو قبل إعلان ترامب نيته تنفيذ «مناطق آمنة» في سورية، وتجديد الشراكة الأميركية ـ السعودية ونيته مواجهة إيران في المنطقة، وهذه المتغيرات دفعت بالملك الأردني سريعاً إلى واشنطن 2/2/2017 لاستيضاح المواقف الأميركية ودور الأردن فيها، وعلى ما يبدو فإنّ الإدارة الأميركية تعمّدت عدم إعطاء إجابات كاملة للملك الزائر، فاستمرّ الأردن في تموضعه الحذر مع روسيا وقامت مقاتلاته بقصف مواقع «داعش» في الجنوب السوري 5/2 وحضر بصفة مراقب اجتماع أستانة الفني 6/2 ، إلّا أنّ الدخول التركي لمدينة الباب السورية 11/2 وترسيم الدفاع الروسية خطوطاً حمراً على تركيا عدم تجاوزها، زاد الأردن حذراً من التقارب مع موسكو في سياق أستانة، وبدأت مقاربته للأستانة تتغير تحت تأثير عاملين، الأول هو استدارة معاكسة لتركيا تجاه روسيا، حيث بدأت بإعادة التموضع مجدداً بعيداً عن روسيا والاقتراب من الولايات المتحدة مجدداً في تماهٍ واضحٍ مع «المناطق الآمنة» بل وأكثر من ذلك، ذهبت تركيا بعيداً في نواياها وخططها بدخولها معركة الرقة مع الولايات المتحدة، في خروجٍ واضحٍ عن تفاهماتها مع موسكو. أما العامل الثانيّ فهو انتعاش الدور السعودي مجدّداً بدفع أميركي ظهر جلياً في صيغة وفد الهيئة العليا للمفاوضات إلى مفاوضات جنيف 4 وتحجم سياق أستانة بل وتجاهله في صيغة الوفد المشكّل بما يعكس رغبة سعودية أميركية لتطويق هذا السياق وإفراغه من قوته الدافعة.

هذه التطورات قادت الأردن سريعاً إلى إشعال «الجبهة الجنوبية» تحت مسمّى «غرفة البنيان المرصوص ومعركة «الموت ولا المذلة» في اليوم التالي 12/2 لدخول تركيا مدينة الباب، بعد أن وعدت موسكو قبل بضعة أيام فقط بضمها إلى سياق أستانة ونظام وقف إطلاق النار 30/12/2016 . فإشعال هذه الجبهة في هذا التوقيت هو تكتيك أكثر منه استراتيجية، وحالة عدم اليقين الأميركية والارتباك الحاصل في فهم المقصد الأميركي من فكرة «المناطق الآمنة» وعدم بلورة مفهوم متفق عليه لهذه الفكرة، دفع الأردن إلى إشعال الجبهة الجنوبية، فمن جهة تعزّز حضوره في أستانة 2 وتحقق المطلب السعودي بإبعاد تركيا وتفاهماتها مع موسكو عن الجبهة الجنوبية، وتعزّز الحضور السعودي في جنيف4 عبر إضعاف سياق أستانة ومخرجاته عن جدول أعمال جنيف4، لأنها تحصر هذا السياق في جبهة الشمال فقط وليس كلّ فصائلها، ومن جهة ثانية يكون الأردن قد أبدى استعداده ليكون بوابة الأميركي إلى الجنوب السوري، بانتظار حسم القرار الأميركي لتنفيذ فكرة المناطق الآمنة. تكتيكُ أردني يتفق مع الحالة الراهنة للسلوك الأميركي المتردد في قضايا المنطقة، حيث تتمحور الاستراتيجية الأميركية حسب المعلن منها في المنطقة في ثلاث قضايا رئيسية. الأولى هي منع روسيا من الاستفراد بالحلّ السوري ميدانياً أو سياسياً، والقضية الثانية هي نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، والقضية الثالثة هي مواجهة إيران في المنطقة. وبتقاطع بسيط لهذه القضايا الثلاث نجد أنّ الأردن هو حاجة أميركية فيها جميعاً، فإشعال الجبهة الجنوبية يساهم في تحجيم مفاعيل أستانة و يعيد موسكو مجبرةً إلى سياق مجموعة الدعم حول سورية باعتبارها الأكثر فاعلية في مسار الحلّ في سورية وليس كما أُعلن في إعلان موسكو الشهير 20/12/2016 . أمّا قضية نقل السفارة الأميركية للقدس فهي تحتاج بوابة إسلامية للشرعنة منعاً لردود الفعل المحتملة وكما هو معلوم فالأردن له وصاية على المقدسات الإسلامية في القدس منذ العام 1924، وتعزّزت هذه الوصاية عام 2013 حين قام الملك عبدالله الثاني والرئيس محمود عباس بالتوقيع على اتفاقية عمان التي تؤكد هذه الوصاية وتفوض الاتفاقية الملك بأنّ له الحق في «بذل جميع الجهود القانونية للحفاظ على القدس»، وهنا نركز قليلاً على «كامل القدس» وعليه وبموجب اتفاقيتي السلام الأردنية ـ «الإسرائيلية» والاتفاقية الأردنية ـ الفلسطينية انتقلت الوصاية من الإطار الدينيّ التاريخيّ إلى الإطار القانونيّ وبذلك، أصبح الملك عبدالله الثاني صاحب ولاية قانونية في الدفاع عن الأماكن المقدسة أمام المحافل الدولية ضدّ أيّة خروقات «إسرائيلية»، وهو ما سيجبره أخلاقياً وقانونياً على الوقوف في مواجهة الخطوة «الترامبية» في نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة موحّدة للكيان المعادي وإلّا ستفقد زعامته الهاشمية قيمتها، أمرٌ من شأنه زعزعة شرعية ملكيته التي تقوم على الهاشمية كأساس «ديني»، و بالتالي يصبح إرضاؤه أو إسكاته حاجة أميركية لتنفيذ هذه الخطوة، أمّا مواجهة إيران فتشكل الأردن والجبهة الجنوبية أحد مراحلها لمنع الحضور الإيراني في هذه الجبهة في مواجهة كيان العدو «الإسرائيلي»، وهنا نستذكر أنّ الأردن هو صاحب مقولة «الهلال الشيعي».

هذه المكانة الجيوسياسية للأردن في تقاطع الأهداف الأميركية الجديدة في «الشرق الأوسط»، سمحت له بهامش كبير للمناورة على الخط الفاصل للعلاقة الأميركية الروسية، من دون إغضاب الأميركي الذي يستثمر في الارتباك الأردني الحاصل بين أستانة 1 وأستانة 2، لكنّ ترامب ربط بوضوح بين ملفين أثناء لقائه ملك الأردن وهما ملف السلام الفلسطيني ـ «الإسرائيلي» والمناطق الآمنة. فتسهيل الملف الأول، وفق الرؤية الترامبو/صهيونية، يصبح بوابة الأردن نحو الجنوب السوري من دون حسم شكل وطبيعة هذا الاتجاه سواء بالتنسيق مع الولايات المتحدة عبر «مناطق آمنة» أو بالتنسيق مع روسيا عبر ضربات مشتركة ضدّ «داعش» جنوباً.

وإلى حين تبلور الرؤية الأميركية للأزمة السورية وطبيعة العلاقة مع روسيا في سورية، من المتوقع أن يتموضع الأردن في منتصف الطريق بين الطريقين مع ميول واضحةٍ لتبني أي خيار أميركي مستقبلاً، ما سينعكس تعقيداً في مشهد أستانة2، وليس مستبعداً أن يكون الغرق الأردني في مستنقع الجنوب السوري مطلباً أميركياً لتسهيل المقايضة الأميركية بين الهواجس الأمنية الأردنية من «داعش» وتوطين النازحين السوريين في الأردن من جهة و نقل السفارة الأميركية إلى القدس من جهة أخرى. وإذا لم يكن الأمر كذلك، لماذا ألمح ترامب بقراره التنفيذي إنشاء «مناطق آمنة» إلى إمكانية «إعادة التوطين المحتمل إلى بلد ثالث».

المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى