مختصر مفيد ماذا يملك ترامب لنتنياهو؟
ينشغل كثيرون من المهتمين بالقضية الفلسطينية وبمستقبل الصراعات في المنطقة، بالتطابق الذي تظهره المواقف المعلنة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وبدرجة التبادل في المديح، ما يوحي بأنّ التباينات التي كانت تحرص كلّ إدارة أميركية على إظهارها، خصوصاً في قضايا من نوع مستقبل السفارة الأميركية في فلسطين المحتلة ونقلها إلى القدس، والتوسّع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس وصيغ التسويات للقضية الفلسطينية، خصوصاً تبنّي حلّ الدولتين ليصير التساؤل عمّا إذا كان لهذا التبدّل من تأثير على الخيارات المتاحة أمام كلّ منهما أو كليهما معاً.
التدقيق البسيط إنّما الهادئ في السياسات الأميركية السابقة تجاه «إسرائيل» سيكشف ما يلي: أنّ التباينات التي كانت تُظهرها كل إدارة أميركية نحو قضايا تتصل بالمشاعر العربية تجاه التعامل مع القضية الفلسطينية لم تخرج عن كونها لعبة سياسية هادفة لتمييع الموقف الفلسطيني العربي واحتوائه، ومنع تصاعده نحو عداء يشمل واشنطن و«تل أبيب»، ويتفجّر انتفاضات ومقاومة، ويمنح دعاة التفاوض فلسطينياً وعربياً، خطاباً مخادعاً يستطيع تجميد الكتل الشعبية العربية والفلسطينية عن الذهاب إلى خيار المقاومة، ببقاء باب الأمل مفتوحاً بنجاح مشاريع التسويات. ولا يمكن إنكار نجاح هذه السياسة في إبقاء الجدل مستمرّاً لربع قرن حول مشروع التفاوض والتسوية، رغم أنه لم ينتج شيئاً، بل أنّ واشنطن وهي تتمايز عن السياسات «الإسرائيلية» في العناوين المذكورة، كانت تحرص على بيع الأوهام للفلسطينيين والعرب بجدوى مواصلة الرهان على خيار التفاوض والأمل في تحقيق التسوية، ويكون لها ذلك. ويجري النجاح بإبعاد شرائح شعبية فلسطينية وعربية وازنة عن تبنّي خيار المقاومة، بل يجري تسويق النظر لهذا الخيار كتعطيلٍ لفرص تسويات ناضجة وممكنة التحقّق والأمر ذاته مستمرّ بنجاح طوال ربع قرن على الأقل.
كانت واشنطن وهي تفعل ذلك بذكاء، تحرص على ثلاثة أمور: أولاً عدم التمسّك بتصوّر تفصيليّ معيّن لصناعة التسوية ترفضه «إسرائيل». فحلّ الدولتين كمشروع غامض بقيت واشنطن تتبنّاه طالما كانت «إسرائيل» تعلن قبولها به كإطار للتسوية. لكن واشنطن كانت كلّما تقدّمت بخارطة طريق لبلوغ هذا الحلّ، واستشعرت رفضاً «إسرائيلياً» لبعض بنوده كما حصل مراراً، مع مشروع بيل كلينتون ومفاوضات طابا أو مشروع هيلاري كلينتون ومشروع الدولة الواقعيّة أو الدولة الافتراضية، وأعلنت «إسرائيل» رفضها، كانت واشنطن تسارع إلى أنها لن تضغط على «تل أبيب» للقبول، بل ستسحب مبادرتها.
الأمر الثاني الذي تحرص عليه واشنطن، هو منع قيام أيّ مساعٍ دولية لتقييد الحركة «الإسرائيلية»، والحرص على توفير الحماية اللازمة لها من المساءلة والملاحقة لتطبيق القرارات الدولية التي بقيت «إسرائيل» بحماية أميركيّة استثناءً خارج القانون عليها، من حماية امتلاك «إسرائيل» السلاح النوويّ، إلى منع أيّ آليّة تطبيقيّة للقرارات الأممية الخاصة بقيام الدولة الفلسطينيّة وحماية القدس ومنع تهويدها وصولاً إلى حق العودة للاجئين، وانتهاء بمنع لجان التحقيق في ارتكابات «إسرائيلية» لا تتوقف لجرائم حرب وجرائم بحقّ الإنسانية، من قتل الأسرى وحصار غزّة إلى جرائم حرب تموز 2006 في لبنان.
الأمر الثالث في حسابات واشنطن و«تل أبيب»، كان دائماً الحرص على أعلى درجات التعاون عسكرياً واستخبارياً لملاحقة قوى المقاومة، ورفع مستوى التسلّح «الإسرائيلي» كمّاً ونوعاً. وعندما كانت ترى «إسرائيل» موازين القوى مواتية لخوض حرب، كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة كلّها توفر الدعم والتغطية اللازمين بلا تردّد. وعندما تحقّق «إسرائيل» نصراً، تستثمر عليه أميركا سياسياً لحساب «إسرائيل». وعندما تخفق «إسرائيل»، تلهث أميركا لحمايتها من تداعيات الخسارة وتقدّم لها بوليصة التأمين وسلّم النجاة.
الحروب التي خاضتها واشنطن في المنطقة كانت حروباً لحساب «إسرائيل»، ولاسترداد مهابتها مع صعود قوى المقاومة بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000 وتكفي العودة إلى ما كتبه المرشّح الرئاسيّ الجمهوريّ باتريك بوكانن عشيّة غزو العراق لمعرفة مكانة «إسرائيل» في الحسابات الأميركية، قبل ترامب وأكثر مما هو ترامب. فيقول بوكانن إن هذه الحرب هي حرب دولة وحزب وزعيم، لكنها حرب دولة غير أميركا، وحزب غير الحزب الجمهوريّ، وزعيم غير جورج بوش. وينتهي بالقول إنها حرب «إسرائيل» و«الليكود» وآرييل شارون.
وصلت أميركا إلى الفشل في الحروب ومثلها «إسرائيل»، والأمر ليس متّصلاً بخطاب الرئيس الأميركي المتساهل مع إيران أو مع المقاومة، كما يوحي كلام ترامب. بل بالقدرة الأميركية على تغيير الحقائق الجديدة. ولن تفيد مواقف ترامب العالية السقوف بتغيير حقيقة العجز الأميركي ـ «الإسرائيلي» عن الحرب، ولن يمنح التعاطف الأميركي مع «إسرائيل» القدرة التي فقدتها في ممارسة الردع. والسؤال الحقيقي بعيداً عن التناوب على التصعيد: هل سيجرؤ الأميركي و«الإسرائيلي» على إعلان موت العملية التفاوضية، وهي مجرّد مسرحية سياسية لتمييع الصراع؟ وهل سيغامر الأميركي و«الإسرائيلي» بحرب تكون طريقاً مختصراً إلى الهزيمة؟ والهزيمة بالنسبة إلى أميركا أزمة قوّة ونفوذ، لكنها بالنسبة إلى «إسرائيل» أزمة وجود.
ما يفعله الثنائيّ ترامب ونتنياهو، إعادة صناعة شروط تفاوضية بتحويل التراجع عن مواقف سابقة إلى أوراق تفاوضيّة جديدة، لا أكثر ولا أقلّ، وغباء المفاوضَين العربيّ والفلسطينيّ اللذين ارتضيا هذه اللعبة، بقولهما «فلندفع ثمن عدم نقل السفارة الأميركية إلى القدس أو ثمن العودة إلى حلّ الدولتين، وما مثلهما»..
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.