مرحلة جديدة في أزمة المنطقة أوضاع «اللاعبين» وإمكاناتهم…

د. مهدي دخل الله

دخلت الحرب الإرهابية والأزمة في المنطقة مرحلة جديدة تفتح إمكانات مختلفة للتطور اللاحق، استناداً إلى دوافع المشاركين وأهدافهم ومدى إمكاناتهم في تحقيق هذه الأهداف.

وعلى ما يبدو فإن الأهداف القصوى لأي مشارك صعبة التحقيق، لذلك فإن اللعبة تستند إلى قدرات كل مشارك على إدارة الأزمة الحرب، وعلى التحكم بمجرياتها أي قدرته على معرفة قوانين «اللعبة» واستخدامها، وهي قوانين تتغير باستمرار.

الولايات المتحدة: استفادت من هذا الإرهاب المنفلت من عقاله بشكل كبير. ولا نريد هنا أن نتفحص النيات، وهل واشنطن هي من صنعت هذا الإرهاب أم لا؟ الأكيد مئة في المئة أنها كانت تستطيع إيقافه ولم تفعل، والأكيد أيضاً أنها استفادت من أفعاله على الأرض.

فلأول مرة منذ سنوات، يتطلع الجميع إلى «عودة قوية وسريعة» للآلة العسكرية الأميركية المكروهة أصلاً إلى المنطقة. ليس المهم أن تكون العودة إلى سماء المنطقة أم أرضها، فالقوة العسكرية واحدة في خلفياتها السياسية والاستراتيجية. حتى أشد أعداء الولايات المتحدة صلابة في المنطقة إيران وسورية- لم تعد تزعجهم هذه العودة، لكن ما يطالبون به هو التنسيق معهم في إطار السيادة والقانون الدولي. ويبدو أن التنسيق قائم وقوي بعيداً من وسائل الإعلام، بدليل ما قامت به الطائرات الأميركية شرق شمالي سورية، وفق ما أعلنه وزير الخارجية السوري من تسلمه رسالة حول هذا الموضوع من الوزير كيري.

هذه ظاهرة لم يشهد مثلها التاريخ المعاصر منذ مبدأ الرئيس الأميركي ويلسون في بداية القرن العشرين. كانت أميركا مطلوبة للخلاص من العثمانيين والاستعمار التقليدي الفرنسي ـ البريطاني، واليوم هي مطلوبة للخلاص من «الاستعمار الإرهابي» لداعش وغيره من مفرزات القاعدة وصيصانها.

لولا الإرهاب لما كانت المنطقة «محتاجة» إلى التدخل الأميركي. هل هناك بعد من يشك في بأن الإرهابيين صنيعة أميركية؟ بغض النظر عمّا إذا كان «المجاهدون» العاديون الطامحون بالذهاب إلى «الجنة» في أقرب وقت، يعرفون ذلك أم لا؟

بالنسبة إلى أميركا، فتحت التطورات خيار التدخل في سورية ودعمت رأي أولئك الذين لاموا واشنطن على تقاعسها للتدخل في سورية سابقاً. آخر اللائمين كان العاهل الأردني، واللوم فيه شيء من التشجيع على تعويض ما فات، أي الطلب من واشنطن التدخل في سورية «لترتيب الأوضاع فيها» شاء القانون الدولي ذلك أم أبى.

سورية: التطورات تعيق هذه الشهوة الأميركية في إعادة ترتيب الأوضاع في سورية لمصلحة الخط الأميركي كما تمنى العاهل الأردني. فالدولة والجيش تزداد قوتهما وتماسكهما باستمرار بخاصة بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي تعززت عبرها ثقة غالبية الشعب بالرئيس الأسد ومنهجه المعادي للإرهاب وللتدخل في سورية معاً.

وسورية عملياً هي الدولة الأهم في محاربة الإرهاب بكل فصائله، وهي الأكثر خبرة منذ بداية الثمانينات، ويبدو أنها مستعدة أو مضطرة لأن تكون مستعدة، لأسوأ السيناريوهات التي تعتمدها واشنطن. وتعتبر سورية أن أي سيناريو لن يكون أسوأ مما حصل فعلاً على الأرض السورية، مع القلق تجاه أية شهوة عدوانية أميركية مباشرة.

إن الصمود السوري هو العنصر الأول في الاستعداد لمواجهة التطورات، لكن العنصر الثاني هو الموقف الإقليمي إيران والدولي روسيا تجاه سورية. لن تتخلى هاتان الدولتان عن سورية، ولن تكون دمشق بضاعة في سوق النخاسة السياسية الدولية لسبب واحد، هو أن سورية أثبتت أنها حليف قوي لطهران وموسكو، كما أن قدرة إيران وروسيا على تحويل سورية إلى بضاعة – حتى لو أرادتا هي محدودة جداً.

إيران: لا شك في أن إيران في مرحلة روحاني تتقدم بخطى ثابتة في إطار السياستين الإقليمية والدولية، ويبدو أن التابو السعودي ـ الأميركي المعروف تقليدياً، وهو عدم السماح لطهران بلعب دور إقليمي، قد أصبح من الماضي. أي مقارنة الأوضاع اليوم بالأوضاع قبل عشر سنوات تؤكد أن إيران البلد الأكثر ربحاً نسبياً في «اللعبة الدولية».

الهجوم الدبلوماسي للقيادة الإيرانية يحقق نجاحات متوالية آخرها اللقاء بين وزيري خارجية إيران والسعودية في نيويورك. وإضافة إلى أن الصمود السوري يشكل عنصر التقدم الإيراني صورة جديدة تردع السيناريوهات القصوى لأميركا في المنطقة.

روسيا: ترى واشنطن أن روسيا انتهكت القانون الدولي في القرم، وتتمنى بعض الرؤوس الصلبة في واشنطن أن يشكل ذلك ذريعة لانتهاك محتمل من أميركا للقانون الدولي في سورية. حلم الشراكة مع أميركا الذي استمرأته روسيا انتهى حيث استيقظ «الدب الروسي» على كابوس الحقيقة الأميركية في أوكرانيا، وتصرف على هذا الأساس مستعيداً القرم الذي كان قد أهداه خروتشوف الأوكراني لأوكرانيا في عهد الاتحاد السوفياتي، إذ إن أوكرانيا كانت جزءاً منه.

روسيا شعرت أن أحلام الشراكة لم تستطع القضاء على الحقيقة الامبريالية، فازداد تمسكها باستراتيجية التصدي وعدم ترك الساحة الدولية للاستعمار الجديد الأطلسي يعبث بها كيفما يشاء، وبالتالي تعاظمت أهمية عناصر هذه الاستراتيجية بالنسبة إلى روسيا ومنها الصمود السوري.

بقي أن تتجه موسكو بفعالية أكبر نحو تنظيم هجوم دبلوماسي على أنقاض حلم الشراكة. لم يعد موضوع التصرف المطلق بالساحة الدولية سهلاً بالنسبة إلى واشنطن كما كان عام 2003 أثناء الحرب على العراق.

العراق: ربحت أميركا والسعودية جولة «تغيير المالكي» بحل وسط قبلت به وباركته طهران. قد تحاول واشنطن إغراء إيران بإعادة التجربة نفسها مع أسد دمشق، لكن الأسد ليس المالكي والوضع في سورية يختلف من ناحية تماسك الدولة والجيش والشعب حول الأسد. معركة إسقاط المالكي لم تكن سهلة، استخدمت فيها واشنطن داعش وعندما تخطت هذه المنظمة الإرهابية الخط الأحمر الكردي أوقفتها أميركا عند حدها.

«اللعبة الدولية» أضحت أكثر دينامية حيث الاحتمالات كلها مفتوحة. نهاية هذه اللعبة تعتمد في شكل أساسي على سلوك اللاعبين أكثر من نصوص القانون الدولي.

وزير وسفير سوري سابق

mahdidakhlala gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى