سديميّة متعمّدة
جورج كعدي
حالٌ من الفوضى والغموض والسديميّة تخيّم على هذه المنطقة المنكوبة من العالم، من محيطها إلى خليجها، تجعل الصورة على قَدْر من الالتباس، فلا أحد قادراً على تبيان الخيط الأسود من الأبيض وفرز المؤكّد من غير المؤكّد، أو حتى المحتمل من غير المحتمل. وأحسب أنّي من المتابعين بدقّة للتعليقات والمقالات السياسية من مختلف الاتجاهات والنزعات والمشارب، ويسعني القول جازماً إنّ الآراء تتضارب وتتناقض إلى حدّ مثير، بل محيّر جدّاً، بحيث أنّها تتعادل أحياناً بـ«الضربة القاضية»، فهذا الرأي يبطله ذاك، ووجهة النظر هذه تمحوها تلك، فلا تبلغ صورة جليّة أو قريبة من الحقيقة إن قرأتَ أو شاهدتَ أو سمعتَ، ولا تصل إلى أيّ إجابة شافية تروي الغليل حول أيّ قضيّة من قضايا الساعة الآتية:
أ ــــ ما حقيقة ظاهرة «داعش» ومن هم خالقوها وداعموها ومحرّكوها الأساسيّون والفرعيّون والوكلاء؟ وهل نكون بلغنا اليقين وخفّفنا من روع الناس واطمأنّينا إلى جواب لو اعتبرنا أن الولايات المتحدة وأطرافاً نفطية صحراويّة من أهل العربة هي الخالق والمموّل والمحرّك والداعم؟ أم عسانا نحلّ اللغز مرّة واحدة ونهائيّة لدى تأكيدنا على أنّ تركيا السلطان أردوغان هي الطرف الأفعل في اللعبة والأولى على قائمة الاتهام؟ أو نقول إنّها «القاعدة» بأقنعتها الكثيرة والمتعدّدة وقدراتها الذاتيّة غير المسيّرة من أحد إلاّ من عقيدة التكفير وإيديولوجيا الخلافة والجهاد والأمميّة الإسلاميّة السياسيّة؟ أو هي «إسرائيل» التي يجب عدم إخراجها من أيّ شرّ يلحق بشعوب أمّتنا والمنطقة بأسرها؟
ألا نرى ونسمع لكلٍّ منطقه وحججه وبراهينه، فلا نزداد في هذا الشأن، كما في أي شأن آخر، إلاّ ضياعاً ولا يقيناً وحيرة وافتقاداً للجواب المقنع والشافي؟ وإلاّ لماذا تزداد حقيقة «داعش» غموضاً، لنعترف، بالنسبة إلى جميع الأطراف العاجزة عن وصف هذه الحقيقة والجزم بها؟!
ب ــــ قضيّة العسكريّين اللبنانيّين المخطوفين من قِبل «النصرة» و«داعش» والله أعلم مَنْ أيضاً، فهل لقطر طاردة «الإخوان» وأشباههم ولتركيا الممعنة في الغموض، غير البنّاء بالطبع، بل المجرم بامتياز يد في احتجازهم ومن ثمّ في إطلاقهم أم لا؟ وإلاّ من هي تحديداً الجهة الفاعلة والمقرّرة والمؤثّرة والقادرة؟ يريد الجميع أن يعرف… أيضاً لغز وغموض، ولا جواب.
ج ــــ قضيّة «الإخوان» المطرودين ظاهريّاً من قطر التي تستميت في الفترة الأخيرة لنفض يدها من منظّمات الإسلام السياسيّ، إن الجهاديّة أو التكفيريّة أو ما بينهما، وتطلب شهادة حسن سلوك من أوروبا عبر أنجيلا ميركل، ومن أميركا والخليج عبر طرد قيادات «إخوانيّة» من أراضيها. فهل ما تفعله قطر تمثيليّة أم لا؟ وهل أوقفت إدارة المجموعات الإرهابيّة في سورية وتحريكها ورعايتها وتمويلها ودعمها سيّاسياً وإعلاميّاً أم لا؟
د ــــ القضيّة اليمنيّة التي شكّلت الحدث الأبرز في الأيام الأخيرة مع «الانقلاب» والسيطرة الحوثيّين، وتهاوي أركان الطرف الآخر المدعوم سعوديّاً، فأقرأ الكثير من التهليل بالانتصار الحوثيّ الإيراني استطراداً بوصفه هزيمة كبرى للسعودية، وعبر منبر آخر أقرأ تحليلاً عنوانه «الحوثيّون يقلبون طاولة اليمن: هل تضحك الرياض في سرّها؟» في إشارة واضحة إلى الترحيب السعوديّ الضمنيّ بما حصل في صنعاء، ما يناقض فكرة أن السعوديّة وحلفاءها الخليجيّين تلقّوا ضربة قاسمة عبر تحوّلات اليمن السعيد!
هـ ــــ قضيّة أكراد عين العرب السورية، فلماذا يُتركون للنزوح المأسويّ بالآلاف، في حين سارعت القوّة الأميركيّة الباغية إلى نجدة أكراد أربيل حيث مصالحها واستثماراتها. وحتّى لو كانت قضيّة مصالح، كيف يسع أميركا أن تتعامل مع الأكراد بأسلوبين ومعيارين علماً أنّهم شعب ذو آصرة إتنيّة واجتماعيّة وإنسانيّة واحدة؟!
إنّها بضعة نماذج، وثمّة غيرها الكثير ممّا تمور بها منطقتنا المشتعلة بالأزمات والحروب والمآسي والمجازر والمؤامرات المكشوفة والخفيّة. بيد أنّنا قد نضيف شكّاً آخر إلى سلسلة الشكوك حول تلك القضايا، أو لعلّنا نقدّم اليقين الذي يزيل الشك لا أدري حقاً لو افترضنا أنّ حال الغموض الشديد والسديميّة المرعبة التي نعيشها هي متعمّدة، ومن صنع أميركيّ، كي يلتهمنا الضياع، وينهش أرواحنا اليأس، وتطبق على صدورنا ظلمة الواقع، فنفقد البوصلة والاتجاه وسط هذا الموج العنيف المتلاطم من الأسئلة واللايقين وفقدان الأمل والرجاء.