بين طهران وميونيخ يستعر دور أميركا وحراسها

د. رائد المصري

تعود نغمة التحشيد والاصطفاف المذهبي في الإقليم من جديد وفي كلِّ مرة يكون الأميركي فيها محكوماً بوقائع تنزع عنه صفة القيادة العالمية، وهو ليس ما نتكهَّن به أو من قبيل التحليل السياسي، بل هو ما أورده قادة غربيون يستعدون لتولِّي مناصب سياسية كبرى، حيث أعلنت مرشَّحة اليمين المتطرف للرئاسة الفرنسية مارين لوبن التي تتصدر استطلاعات الرأي في هذه الأيام: أن الوقت حان للانتهاء من الاتحاد الأوروبي، ولقد حان الوقت للانتهاء من اتحاد أوروبي لمحاولته عملية اندماج تقضي على الأمم الأوروبية، وبأنه علينا وضع حد لهذا الوحش البيروقراطي الذي تتَّهمه بأنه شموليّ، مؤكِّدة على ضرورة إشراك فرنسا في خدمة عالم متعدِّد الأقطاب.. وذلك خلال مؤتمر دولي.

يبدو أن هناك إصراراً أعمى من قبل بعض الرجعيات العربية المُلتحفة بالعباءة الاستعمارية الأميركية وربيبتها «إسرائيل»، بعدم ترك أو فتح أي ثغرة في جدار الأزمات التي افتعلها المستعمر في المنطقة العربية والإسلامية، ومنها ما صرّح به وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في مؤتمر ميونيخ حول استعداد بلاده إرسال قوات سعودية الى سورية لتقاتل مع الأميركي، لطرد داعش منها، وطالب كذلك بعدم تسليم أي منطقة محرَّرة من التنظيمات الإرهابية للدولة وللجيش العربي السوري، بل أن تبقى بحوزة الميليشيا المسلّحة، وكذلك الحديث عن عملية سياسية انتقالية لا يكون الرئيس الأسد مكان فيها، وهو كلام بطبيعة الحال لا يغيّر شيئاً في معادلات الصراع وفي المكاسب المتحقَّقة، لكنَّه يُعيد بنا في الأزمة السورية إلى مربعها الأول. وكذلك الموقف من إيران، حيث ما إن طلب أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله من الكيان الصهيوني تفكيك مفاعله النووي، حتى استعرت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن إيران أكبر دولة داعمة للإرهاب في العالم. ومن ناحية ثانية ما إن أنهى مؤتمر ميونيخ للأمن أعماله، حتى قال الجبير إن إيران أكبر دولة داعمة للإرهاب في العالم، وبذلك تكون الولايات المتحدة والمملكة السعودية قد وضعتا المفهوم الخاص للأمن الدولي وفي منطقة الشرق الأوسط عبر محاولة رسم وتقويض لإيران ومواجهتها في المنطقة.

فمؤتمر ميونيخ لهذا العام الذي يعكس حالة الأمن المتردِّية عالمياً، وهشاشته التي شابهت الواقع الدولي قبل الحرب العالمية الثانية، من خلال حجم المشاركة فيه التي فاقت مؤتمرات الأعوام الماضية، وهو ما يعني أنَّ الهاجس الأمني بات ملحّاً وضاغطاً على الجميع للبحث في مسألة الأمن، وهي تصريحات تصعيدية تضع المنطقة طبعاً في قلب حرب إقليميّة كبرى.

هناك إصرار دائم وعمل دؤوب من قبل المشروع الاستعماري الأميركي وأداته الصهيونية في المنطقة وكلاب حراسته التاريخيين، على إبقاء المنطقة العربية في حالة توتُّر وحروب مستمرة، رغم الاستهداف الممنهج لبنى الدولة العربية والإسلامية المستمرة منذ عقود، ورغم ضرب المكوِّنات الوطنية ونسيجها الاجتماعي والثقافي التنويري عبر الحركات التكفيرية المجبولة بالفكر الوهابي.

ليس لديكم سوى المال ونحن نخطّط ونعمل ونسرق الثروات العائدة للشعوب، كلام استعماري بامتياز وبدون أقنعة للسيد ترامب، وجَّهه لحكَّام الخليج وللسعوديين، فتداعوا للعمل على إقامة مناطق آمنة في سورية ودفع كلفتها، تسوِّغ وتشرِّع وتعزِز منطق التقسيم فيها، من دون النظر والالتفات للاحتلال التركي لأراضٍ سورية وعراقية، وهو أصلاً غير موجود في الوعي الجمعي الخليجي المنزوع منه الفكر القومي والهوياتي ومفقود من أدبياته منذ نشأة وتركيب هذه الكيانات.

لقد تمكَّن ترامب أن يفرض على السعودية العودة إلى السياسات المتطرّفة، في سورية وفي اليمن وطبعاً في اتجاه إيران بعد أن كادت تصل لمخارج تحفظ ماء وجهها، وتكللّت بمباشرة الكويت فتح الطريق لهذا التفاهم السعودي الخليجي الإيراني، تجلَّت في زيارة وزير خارجية الكويت لطهران، وبذلك فوَّتت أميركا على السعودية فرصة ثمينة أعتقد أنها لن تتكرَّر، كان يُمكن لها من خلالها أن تُنزل كلَّ هذه الحمولات الزائدة والمتثاقلة التي أنهكتها في المنطقة، والتي كانت جراء أزمة افتعلتها بستار مذهبي انعكس على حالة الصراع الإيرانية السعودية القائمة والمتجدِّدة.

هي تطورات تزامنت مع بدء الولايات المتحدة تشكيل تحالف إقليمي ستاره الضمنيّ «سني» تندرج فيه أربع دول عربية، تشكِّل السعودية ومصر عماده، والأردن ودولة الإمارات وتركيا مع الكيان الصهيوني، أولوياته العمل على إقامة مناطق آمنة في كل من سورية واليمن، تمهيداً للإطاحة بالنظم فيها وضرب الجيوش، ومن ثم العمل على التقسيم…

وكان لافتاً دور الحارس أردوغان في تسارع نبرة تصريحاته تجاه إيران ووزير خارجيته بنشر التشيُّع في المنطقة العربية، التي فطن لها الآن بعد أن فاق حجم التبادل التجاري مع طهران 30 مليار دولار سنوياً، فهذا هو حال الإخوان وإسلامهم السياسي المشوَّه والهجين الذي وُجد وخُلق عن طريق زناة الليل، لمواليد لم تكتمل عناصر بلوغها، فأتت منقوصة العقل والجسد، بحث لا تستطيع التنكُّر لمولودها الحرام، ولا تقدر على معالجته لأنه مرض عضال في هذه الأمة.

من هنا تظهَّرت كذلك الحقائق الصادمة من الاجتماع السري الذي عُقد قبل عام في العقبة وسرَّبت خبره الصحافة «الإسرائيلية» بين نتنياهو والرئيس السيسي وملك الأردن، في تقديم أقصى التنازلات تمهيداً لتصفية القضية الفلسطينية..

أمام كلِّ هذه التطورات المتسارعة والتي لم تقرأها كلاب حراسة المستعمرين جيداً، بأن حدود الاستخدام الأميركي لوظيفتهم قد حانت، فكانت انطلاقة مؤتمر طهران لدعم الانتفاضة الذي حضره أكثر من ثمانين دولة، ليؤكد بالإصبع وبالبُنان، بأن هذا هو جوهر الصراع وجوهر القضية، وأساس المشروع الاستعماري للمنطقة، وهو ما شكَّل حالة هستيرية للسعودية ولتركيا معاً، فارتسمت معالم التنسيق بعد عودة الجبير عبر تصريحاته النارية، مع الأميركي ولرسم خطوات مواجهة إيران مستقبلاً وهو ما تمَّ الاتفاق عليه وبدأ يدخل ضمن الإجراءات التنفيذية وليس فقط من الباب السياسي والإعلامي.

فالحديث الأميركي والسعودي والتركي والصهيوني بلسان ليبرمان في مؤتمر ميونيخ للأمن، يبدو أنَّه رسمٌ لمعالم التوجُّهات الأمنية المقبلة والتي سيكون ركيزتها مواجهة أشمل وأكثر عنفاً مع إيران، لكن هل ستؤسِّس للمزيد من الحروب في المنطقة؟؟ هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مسار المفهوم السياسي للأمن الدولي بالنسبة لأميركا، وكما يفهمه ترامب الساعي للتفلُّت من الحالة المُمأسسة في إدارته للتفرُّد بقرار رؤيته للأمن الدولي الخاص من منظوره… أجوبة تبقى رهن التطورات الميدانية والسياسية في سورية..

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى