لولا الأول من آذار لما كانت مآثرنا… القوميون الاجتماعيون قدّموا أمثلة ودروساً كثيرة في الالتزام والتفاني والبطولة والتضحية
الأمين لبيب ناصيف
هذه باقة من كثير، أما مآثر حزبنا، وبطولات رفقائنا، ومواقف التفاني المستمرة منذ تأسيس الحزب، فهذه قد تعجز أن تضمّها مجلدات. واذا كان رفقاء سجلّوا بعضاً من تلك المآثر، التي عمدنا الى نشر أجزاء منها في نبذات سابقة، إلا أننا ندعو رفقاءنا الذين سطرّوا مواقف التحدي والجرأة والتفاني، او عرفوا بها، ان يكتبوا الى لجنة تاريخ الحزب.
الرفيق بطرس كيروز: كان من مرافقي سعاده، وسقط شهيداً في بداية سنوات الحرب المجنونة 1975 1976.
يروي الرفيق ألبير أبو حيدر انه التقى به في سجن الرمل عام 1949، عند خروج الرفيق بطرس من السجن، حاملاً فراشه، بادره آمر السجن محمد جواد دبوق: يا بطرس، مستعد ترجع عالحبس؟
فأجابه الرفيق بطرس: الفرشة تحت باطي، وانا مستعدّ كلّ ساعة، ولتحي سورية.
يروي الرفيق أبو حيدر أيضاً انه كان أوقف بعد الثورة القومية الأولى في مخفر بكفيا مع رفقاء آخرين، «في الصباح أخذنا رئيس المخفر حنا رزق الله موقوفين الى سجن الرمل بعد ان خيّرنا بين ان نذهب سيراً على الأقدام، أو يستأجر لنا سيارة تاكسي. فكان جوابنا اننا على استعداد للسير الى سجن الرمل على أقدامنا.
كنا فخورين، نسير ورؤوسنا مرفوعة والمارة ينظرون إلينا مدهوشين، وقد عرفوا اننا من الحزب السوري القومي الاجتماعي.
هكذا كنا نقدّم للآخرين درساً على ما نحن عليه. كنا قدوة في كلّ تصرفاتنا.
يورد الأمين د. عبدالله سعاده في الصفحتين 209-210 من مذكراته «أوراق قومية» ما يلي:
«نشط بعض أهلنا وأصدقائنا في الخارج لتأمين عفو خاص من قبل رئيس الجمهورية شارل حلو يشمل عشرة سجناء. وانتشرت أخبار هذا العفو الخاص في الخارج وفي السجن، مما خلق بلبلة هناك وهنا. فاجتمعنا في غرفتنا لتدارس الأمر فأبدت أكثريتنا رغبتها في رفض العفو الخاص. أما الموافقون عليه ضمناً والساعون إليه سراً فقد تهيّبوا الموقف وسايرونا في الرفض. وبالفعل بعد مدة وجيزة جاءت الى السجن لجنة طبية برئاسة الدكتور الأستاذ يوسف حتي، لتبحث معنا هذا الموضوع، وطالبت ان تلتقي بي شخصياً كوني الأكثر مرضاً بعد العمليات الجراحية في ظهري، وكوني كنت المسؤول الأول في الانقلاب. فأصرّ الرفقاء على ان يكون اللقاء جماعياً، وكنت أعلم سبب إصرارهم «انّ سوء الظن من بعض الإثم». ورتبنا الأمر على الشكل التالي: كانت غرفتنا عبارة عن غرفتين صغيرتين مفتوحتين على بعضهما، فالتقيت باللجنة في الغرفة الخارجية، وبقي الرفقاء كلهم في الغرفة الداخلية يسمعون ولا يشاركون. بادر الدكتور حتي قائلاً: «انّ رئيس الجمهورية قد قرّر العفو عن عشرة من الكبار بينكم، مما يسهّل طريق العفو عن الباقين، ولكننا بحاجة الى ترتيب الشكليات الضرورية، وإعداد إضبارة طبية عن كلّ واحد منكم بتوجيهات من رئيس الجمهورية، وانها قضية شكلية لا غنى عنها». فشرحتُ للدكتور حتي وللجنة موقفنا الرافض قطعاً للعفو الخاص، والتمييز غير العادل بين الرفقاء، وأكدتُ له أنّ رئيس الجمهورية سيكسب عداءنا الشرس إذا أصرّ على إصدار العفو الخاص، ورجونا اللجنة ان تنقل إليه شكرنا لحسن نيته ورفضنا المطلق لتنفيذها او القبول بها. هنا أجاب رئيس اللجنة: «بعد هذا الموقف الصريح الواضح لم أعد أجد منفعة من المضيّ في إعداد الإضبارة الطبية»، وأردف: «أنا واثق من انّ رئيس الجمهورية سيحترم رأيكم». وانطوى موضوع العفو الخاص الى غير رجعة.
«أشرت الى انّ هذه الأخبار تسرّبت وانتشرت في الخارج، فقد جاء أحد أقربائي إلى والدتي التي كانت تبلغ من العمر 95 سنة مبشراً إياها بأنّ ولدها «الحكيم» سيعود قريباً الى أميون، وشرح لها موضوع العفو الخاص كما كان وارداً. فشكرته على اهتمامه، واستدعت زوجتي مي، وأخبرتها بما سمعت من خبر العفو عني، وأضافت: «أرجوك ان تنقلي الى عبدالله انّ قبوله بالعفو الخاص يسيء كثيراً الى شرفه وشرف حزبه. فقد دخل السجن وهو رئيس هؤلاء الشباب، وما عليه إلا مقاسمتهم النتائج بأخلاقِ الرجال، وأن يكون آخر واحد يترك السجن وليس اول واحد».
«فجاءت زوجتي الى سجن القلعة لمقابلتي، ونقلت إليّ ما قالته أمي، فتأثرتُ كثيراً من نبل هذا الموقف ورجعت الى الغرفة والدمعة ما تزال في عيني، فسأل الرفقاء عن السبب فأخبرتهم بموقف الوالدة المشرف، فشاركوني مشاعري.
«وبعد دقائق استدعيت ثانية للمقابلة، واذ بقريبي وسائق سيارتي سليم منصور، يخبرني بأنّ والدتي استدعته وكلّفته بأن ينقل إليّ شخصياً موقفها من العفو الخاص، خشيةً ان لا تقوم زوجتي بواجب نقل وصيتها لي. وضحكت من هذه المبادرة الطريفة، وعدت الى غرفتي والابتسامة لا تزال على وجهي. فسألني الرفقاء: «خير انشالله، ما هو الخبر المفرح؟» فرويت لهم قصة سليم منصور والوالدة.
«بعد أشهر نُقلت الى مستشفى الجامعة الأميركية، وجاءت والدتي على كرسيها المتحرك تزورني في المستشفى، ودخلت علينا السيدة ليلى جدع، التي قبّلت يدها وسألتها: «هل صحيح يا ستي أنك لم تريدي العفو عن ابنك؟». فأجابتها الوالدة: «الأمر الوحيد الذي يحدوني لأن أبقى حيّة هو ان أرى ولدي عبدالله خارج السجن، ولكن هل تريدينني يا سيدة ليلى أن اراه حراً بدون كرامة شخصية ولا كرامة حزبية؟». أنت وأنا لا نريد ذلك. لو كان مرضه مميتاً ربما كنت أوافق، أما وأنه يشكو آلاماً في ظهره وساقيه، فبإمكانه ان يتحمّل هذه الآلام في السجن كما في الخارج». فانكبّت السيدة جدع على يدها تقبّلها وتقول: «أسأل الله ان يعطيني وعيك في شيخوختي أيتها الكبيرة».
يروي الرفيق متى أسعد في الصفحة 190 من مؤلفه «الماضي المجهول» انه توجه صيف العام 1972 الى مخيم للأشبال في «وادي الخنفسة» في بيت مري، بدعوة من الرفيق فهد الشمعة الذي قال له: «إنّ احد الكهنة سيأتي الى المخيم ويلقي كلمة». وبالفعل حضر الأب جورج رحمة وبرفقته الأب أنطوان ضو. يضيف الرفيق أسعد انّ الأب رحمة صعد الى المنبر وبدأ بالقول: «يا شباب انا لست سورياً قومياً ولكن دعوني أقُول لكم إننا بعد ان حصلنا على دكتوراه في اللاهوت أرسلنا الى أرقى الجامعات في الخارج للحصول على دكتوراه في الفلسفة والعلوم. وفي الجامعة اعترضتنا مسائل لم نجد حلاً لها فلجأنا الى البروفسور الأعلى في الجامعة نسأله حلاً لهذه العقد فصمت قليلاً ثم قال لنا بصوت خافت: «راجعوا كتاب نشوء الأمم لأنطون سعاده»، هنا وقف شعر رأسي، جئنا من أقاصي الأرض لنتلقّى العلوم وإذ بهم يعيدوننا الى لبنان، الى أنطون سعاده! فذهبنا الى مكتبة الجامعة وفتشنا ملياً حتى وجدنا الكتاب المذكور وها أنا الآن أقف أمام تلامذة سعاده لأقول من دون مبالغة إننا بفضل هذا الكتاب نلنا الدكتوراه بتفوّق. ولكن قرّرت بيني وبين نفسي ان أتعرّف الى سعاده فور عودتي الى لبنان، وبالفعل بعد ان عدنا، جمعتُ كلّ ما كتب سعاده وذهبت الى البحر، هناك على البحر كنا ثلاثة، أنا والبحر وسعاده، ولكن بعد ثلاث ساعات لم أعد أعرف أيهما البحر سعاده أم البحر ، هنا بدأ التصفيق الحادّ من الرفقاء ـ بعد ذلك قال الأب رحمه: إني على استعداد للإجابة على اسئلتكم جميعاً. وكانت الأسئلة توجه خطياً حيث أخذ الرفيق فهد شمعة الذي كان يجلس بقربي ورقة وكتب عليها: «ما دام الأب المحترم قد قرأ سعاده وآمن بأقواله ألا يخشى لوم رؤسائه العاملين بالسياسة الدينية؟» قال الأب رحمه رداً عليه: «إني أجيب السائل بأني بعد أن اطلعت على سعاده، لم يعد يهمّني من هذا الكون إلا الله وضميري.
بعد ذلك لم أعد أرى الأب رحمه، حتى رأيته على شاشة تلفزيون النور T l Lumi re ، وهو يشرح للسائلين والمستمعين مساوئ البدع التخريبية في الرسالة المسيحية.
سعيد تقي الدين وجمعية خريجي الجامعة الاميركية
ما أورده الأمين أديب قدورة في الصفحتين 178 و 179 من كتابه «حقائق ومواقف» يقدّم إضاءة مفيدة عن الرفيق سعيد تقي الدين وعن الحضور القومي الاجتماعي في جمعية خريجي الجامعة الأميركية، يقول:
«احتدمت المعركة الانتخابية بين سعيد تقي الدين والنائب إميل البستاني، بقوة وعنف شديدين. ورغم ما كان يحيط بإميل من القوى والفاعليات ورغم تكتل الأحزاب ضدنا، وأساتذة الجامعة الذين يساندونه ويؤيدونه، كان سعيد تقي الدين مجلياً في الميدان، ويبرز تفوّقه على إميل بوضوح، مما حفز البستاني ان يبادر في إعلان تعبئة جيش من الموظفين والمهندسين، وإحضارهم من الكويت والخليج العربي بالمئات، بواسطة طائرات خاصة، من أجل الاقتراع، ثم إرجاعهم ثانية. ومع كلّ ما بذله من جهود هائلة وأموال طائلة للفوز بالمعركة، فبالكاد ربحها بفرق أصوات قليلة! ولكنه لم يستطع أن يأخذ صوتاً قومياً واحداً ولا صوت كمال خولي 1 رئيس العلاقات العامة في «كات» 2 لقد صوّت علناً مع سعيد. هكذا الحزب. ولم ينسها إميل حتى موته.
تشييد نادي جمعية المتخرجين:
قبل انتماء سعيد تقي الدين الى الحزب، كان رئيساً لنادي المتخرّجين. كما كنت أنا عضواً في مجلس هذه الجمعية. وكان هذا النادي يتألف من عدة ملاعب للتنس مع غرفتين ودوش.
قدم سعيد مشروع بناء للنادي، يحتوي على فندق، يؤمّه المتخرّجون من خارج بيروت ولبنان، يتضمّن جميع أسباب الراحة، وقاعات للاجتماعات والندوات والمحاضرات.
تساءلنا عن كيفية تنفيذ هذا المشروع الكبير بدون الأموال اللازمة، وصندوق الجمعية لا يحوي إلا اليسير من المال؟!
أجاب: «لنبدأ بدرس المشروع، ثم نعنى بتدبير الأموال».
عكفنا على الاجتماعات وتحضير الخرائط التي جهّزها عضو المجلس، المهندس بهيج الخوري المقدسي 3 ، وبعد ان عدلناها ومحصناها عدة مرات، أصبح تصميم النادي ثلاثة أضعاف حجمه الأساسي.
واقترح سعيد، لتمويل المشروع ان نلجأ الى الخرّيجين في لبنان، والخارج، وحثهم على التبرّع ثم نتقدّم من بنك او اكثر لطلب قرض بكفالته الشخصية، بالإضافة الى رهن البناية المنوي تشييدها.
وهكذا قام بناء نادي خريجي الجامعة الأميركية في بيروت شامخاً، بفضل الجهود المضنية التي بذلها سعيد تقي الدين، إذ اقترض من البنك العربي مبلغاً كبيراً لتنفيذ هذا المشروع الجليل وتجهيز البناء بالمفروشات.
كان أنيس البيبي رئيساً للبنك العربي الذي ساعد المشروع، ورعاه وكان لعمله هذا أطيب الأثر لدى الخريجين.
وليس من شك في أنّ بناء نادي الخريجين كان مغامرة ناجحة لا يقدم عليها إلا شخص كسعيد تقي الدين، ذلك الرجل الذي وثق بنفسه، وبعقيدة الحزب، وكان يومئذ يقارب الستين من عمره.
هوامش
1 – كمال خولي: من اوائل الذين انتموا الى الحزب، والد الرفيق بول خولي الذي نشرنا عنه كلمة عند رحيله.
2 – كانت شركة «الكات» مملوكة من الثلاثي إميل بستاني، عبدالله خوري وشكري شماس. رغم وظيفته الهامة في الشركة أبى الرفيق كمال خولي ان يرضخ لمصلحته الشخصية فينتخب اميل بستاني، انما تقيّد بالقرار الحزبي عاملاً لمصلحة الرفيق سعيد تقي الدين.
3 – بهيج الخوري المقدسي: من اوائل الذين انتموا الى الحزب. ساهم بوضع الشكل الهندسي لشعار الحزب: «الزوبعة».
كنتُ أعددتُ نبذة غنية بعنوان «سعاده في الأول من آذار» عرضت فيها للمعلومات عن كل مناسبات الاول من آذار منذ عام 1935.