المقاهي الثقافية… تاريخ وأسماء ووجوه!
اعتدال صادق شومان
يُعتبر المقهى لأي مدينة في العالم كأحد مرافقها العامة ومرآة لها يعكس تلاوينها الزاهية والباهتة على حد سواء تعبيراً عن مزاجها العام، وهو بمثابة العتبة من البيت، والشرفة التي تطلّ منها على العالم. هكذا هي المقاهي في مدننا، وكذا هي في العالم، تتناقص حيناً وتزدهر أحياناً تبعاً لحال البلد فحالها من حاله، وما يضنيه يضنيها.
تاريخ انتشار القهوة
اختلفت الروايات التي أوردها المؤرخون حول تاريخ اكتشاف البُن وانتشار القهوة التي كانت سبباً لإقامة المقاهي العامة، أياً كانت فرضية نشوء فكرة المقهى يبقى الاساس الوحيد لوجودها هو حاجة الناس في المدن الى مساحة عامة أو مكان محايد يلتقون فيه لمناقشة قضاياهم العامة ومتابعة مصالحهم الاقتصادية أو حتى من أجل التسامر، تماماً على عادة أهل القرى الذين يلتقون في ساحة القرية العامة على مختلف مناسباتهم الاجتماعية، ومع تعاظم مبرر وجودها باتت ضرورة حياتية فتكاثرت وتنوع روادها وتعددت أهدافها وصارت تحمل اسماءً لها للدلالة عليها. ولعل أقدم مقهى عرف تاريخياً كان في دمشق عام 1530، وكان مساحة لمناقشة اوضاع الخلافة على ما تقول الروايات التاريخية، لتتوالى المقاهي من القاهرة، الى بغداد، يافا، وبيروت، خلافاً لبعض المدن العربية على الأخص في المغرب التي كانت على وتيرة أقل في هضم فكرة ارتياد المقاهي لأسباب سوسيولوجية خاصة.
ملاذ لكل الأطياف
وأصبح للقاء في المقهى مفهومه العام في كل العالم يرتادها أناس من مختلف الاطياف وعلى اختلاف مشاربهم منهم رجال أعمال، عابرو طريق. رواد أدب وفكر، ساسة، ولكل منهم غرضه، عند البعض هو ملاذ، حتى صار المقهى حاجة حياتية للناس بمفاهيمه المتعددة، على الأخصّ المثقفين منهم، الذين منحوا المقهى جزءاً من ملامحهم الإبداعية فأكسبوه شهرة وزخماً، فتحوّلت بفضلهم بعض المقاهي الى ركن ثقافي كانت للفكر فيه صولات وجولات. وبرزت أسماء ووجوه، أمثال العقاد ونجيب محفوظ والجواهري وأدونيس والماغوط والخال وسعيد عقل ويوسف الصايغ. هم كل هذه الإضاءات في رحابنا الثقافية.
دمشق التي تطل منذ الأزل
نبدأ مع دمشق التي أنشئ فيها أول مقهى في المنطقة في زمن الخلافة، ومنذ ذلك الأمد بقيت دمشق على عهدها في فتح المقاهي الى اليوم، وروادها الى اليوم لم يغادروا مقاعدهم، رغم أزيز الرصاص، فثمة حكايات لم تروَ بعد عن وجه مدينة تطل منذ الازل.
يحتل مقهى «الهافانا»، اسمه بالأصل مقهى الرشيد موقع الصدارة في الذاكرة الجماعية للدمشقيين الى جانب مقهى الروضة ومقهى البرازيل، ومن رواده الأديب محمد الماغوط الشاعر اسماعيل عامود، شريف الراحداش، وقصده الشعراء بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي واحمد صافي النجفي، والشاعر القروي ومحمد مهدي الجواهري وأحمد عبد المعطي حجازي ورجاء النقاش، ومن الفنانين المصريين محمود المليجي وفريد شوقي والمطرب عبد المطلب حتى أنهم شبهوه بمقهى الفيشاوي الذائع الصيت في مصر، ولكل واحد منهم حكايته يرويها عن مقهى «الهافانا» الدمشقي.
واليوم لأهمية هذا «المقهى الصرح» التاريخية والمعنوية والثقافية بما يشكل من ذاكرة لأحداث شهدها باتت تملكه وزارة السياحة السورية، إثر محاولة أحد التجار شراءه بغية تحويله لمحل تجاري وكاد أن ينجو بفعلته لولا تصدي أحد المثقفين الأوفياء للمقهى، وقاد حملة ما أجبره على التراجع.
وعندما اقفل مقهى «البرازيلي الدمشقي» رثاه أحد الشعراء بأبيات شعرية «قف بالطول، وقل يا دمعتي سيلي
أخنى الزمان على مقهى البرازيلي
كأن أيامه لم تحو لندوتنا
ولا تضارب فيه القال والقيل».
وكان هذا المقهى قد نال شهرة واسعة في زمنه ورفع رواده شعار «نحن اخوان الصفا، وخلان الوفا، والحكي بالقفا»
هي سمة الوفاء للمكان التي اتسم بها ذلك الجيل من الرواد ولعل أبلغها قصة الماغوط مع مقهى أبو «شفيق» القائم على ضفة نهر بردى في دمشق الذي اعتاد الماغوط أن يرتاده كل صباح مشياً على الأقدام مسافة خمسة كلم، ليركن الى قلمه وأوراقه الكثيرة وإذا حدث أن المقهى أقفل أبوابه بقي الماغوط مواظباً بالتردّد عليه، رغم إقفاله فكان أن تبرع أحد العاملين في المقهى بالتواجد من أجل تلبية طلباته، وفيه كتب مسرحياته «كاسك يا وطن» و«غربة» وسيناريو فيلم «الحدود» تذكّرنا قصته بقصة غابريل غارسيا ومقهى الطاحونة الذي لم يتمكن من حجز مقعد له لو لم يساعده نادل يعمل في المقهى ، حتى أثناء وجوده في باريس افتقد الماغوط مقهى أبو شفيق فيقول «كل شيء فيها: السياسة، الدين، الفن، الاقتصاد، يبدو حراً ومرناً كراقص باليه، ومتماسكاً كحلقات السلاسل حول أقدام الأسرى، لكن رغم ذلك لم استطع أن أكتب فيها حتى ولو رسالة، وأحسست أن مقهى أبو شفيق أهم من كل مقاهي الشانزيليزيه، ومقتنيات متحف اللوفر».
مقاهي مصر قرينة الأهرامات
يتشابه مقهى الفيشاوي في مصر الذي تأسس في العام 1797 مع «الهافانا الدمشقي»، من حيث دوره الكبير في الحركة الأدبية والثقافية من خلال كبار رواده يتقدمهم الاديب نجيب محفوظ الذي كتب معظم أعماله في هذا المقهى بعد أن سبقه اليه جمال الدين الافغاني والإمام محمد عبدو في زمن كانت العمامة تدخل المقهى ولم يكن المقهى منكراً، وأيضاً الرئيس جمال عبد الناصر وقبله، الملك فاروق الذي أهدى المقهى مراياته الشهيرة. بالإضافة إلى الفنانين عبدالحليم حافظ ومحمد فوزي وليلى مراد ومحمد الكحلاوي وعبد المطلب والشعراء كامل الشناوي ومحمد ديب. والكاتب عباس محمود العقاد والممثل نجيب الريحاني ومفكّرون سياسيون عرب وأجانب ابرزهم المفكر الفرنسي جان بول سارتر وصديقته سيمون دي بوافور.
وليس مقهى الحرافيش اقل منه شأناً الذي اقتبس اسمه من اشهر رواية لنجيب محفوظ، كما هو معروف، حتى ان اصحابه زينوا مدخله بتمثال لمحفوظ. واقاموا ركناً للكاتب الساخر محمود السعدني. وآخر لشاعر العامية بيرم التونسي ومكتبة تضم كتبه، وركناً لرسوم فنان الكاريكاتور السوري حسين ادلبي رسمها لفناني ذاك العصر. ولا مبالغة بالقول بأن المقاهي في مصر تعتبر معالم سياحية يقصدها السياح اسوة بالاهرامات أعجوبة العصر. بفضل روادها من رجال الثقافة والفن بعصوره الذهبية، مصر أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد المطلب، واللائحة تطول.
بغداد والبعد التاريخي العريق
لبغداد الإطلالة العريقة بثقلها الثقافي من شارعها الأشهر الذي تسمّى تيمناً بصاحب «القلم والقرطاس» أبو الطيب المتنبي رافد بغداد الثقافي، يسير بكنف رافدها المائي نهر دجلة منذ العام 1932 وكان يُسمّى سابقاً «سوق الوراقين». يفيض «المتنبي» بدلالاته الثقافية ذات البعد التاريخي بما يمثل من ذاكرة حاضرة في وجدان أجيال متعاقبة من المثقفين العراقيين ومن قاصديه العرب والأجانب. وهو اليوم يسمى خامس شارع للثقافة في العالم، بحسب تصنيف الأمم المتحدة، عام 2007 وبقيت أصابت هذا الشارع فاجعة، إذ استهدفه تفجير إرهابي بسيارة مفخخة، النيران مشتعلة فيه خمسة أيام، وقد أتت على آلاف الكتب التي تحويها المكتبات المتراصة على جانبي الشارع. والتهمت النيران يومذاك أقدم مكتبة في الشارع المكتبة «العصرية» وقُتل أشهر بائع كتب فيه «محمد اليحياوي»، قبل أن يُعاد ترميم الشارع في العام 2008 .
ولكن يبقى «شارع الرشيد» هو الأوفر حظاً في المقاهي الأدبية الشهيرة في بغداد، إذ قامت: على جانبيه مقاهي: الواق واق، البرازيلية، ياسين، شط العرب، البلدية، البرلمان، المعقدون، الشابندر، الزهاوي، العجمي. واعتبر هذا الشارع بمقاهيه المنتشرة على أماكن متعددة من جانبيه المكان الذي تنطلق منه تظاهرات الأحزاب والقوى الوطنية العراقية والمثقفين والسياسيين ضد الهيمنة البريطانية والحكومات المتعاقبة طوال سنوات طويلة حتى قيام ثورة 14 تموز عام 1958.
وحكاية المثقفين مع هذه المقاهي حكاية تبدأ ولا تنتهي فيها تكونت بعض التجارب الشعرية واليها توافد الشعراء محمد مهدي الجواهري، وشاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وكثر من وجوه الفكر والأدب والإبداع وتفيد كواليس ذاك الزمن، بأنه بين زواياها صدر ديوان «ملائكة الشيطان» لعبد الوهاب البياتي، «ازهار ذابلة» للسياب و«خفقة الطين» لبلند الحيدري، ومن جوارها ألقى الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري قصيدته الشهيرة «أخي جعفر». مقاهٍ غارت في الذاكرة. ومقاهٍ أغارت عليها الحداثة.
ليبقى الرجاء للعراق المثخن بالجراح منذ الأمد دوام المقولة القديمة التي تردّدت في زمن قيل عنه زمن «العزّ العربي»، «مصر تكتب، لبنان يطبع، والعراق يقرأ».
فلسطين والثقافة
في فلسطين، كانت سطوة المقهى أقل، رغم ذلك اشتهر فيها مقهى الصعاليك وهو أقدم مقاهي فلسطين الثقافية إذ تأسس سنة 1919 ، فحلّت يافا عاصمة للثقافة في فلسطين من دون منازع، من حيث احتواؤها على عشرات الإصدارات الصحافية الى جانب أهم وأجمل دور السينما والمسارح والنوادي الرياضية والثقافية الأمر الذي أضعف دور المقاهي الشعبية بوجود الأندية الثقافية، حتى المقاهي فيها اشتهرت بتقديم العروض المسرحيّة كمقهى «أبو شاكوش»، ومن أشهر مقاهي يافا «قهوة الباريزيانا» وقهوة «اللمداني» وقهوة «بريستول» وقهوة «القدس» وقهوة «الانشراح».
هذا قبل حلول النكبة المشؤومة على فلسطين والفلسطينيين الذين دأبوا على قرع الأجراس لأجلها، حيث هم على أرض الشتات، من دون ان يتأثر وعيهم بعيدا عن هويتهم الوطنية، وبالتالي بثقافتهم الوطنية لتظهر أصوات إبداعية توهّجت أقلامهم، كما دمهم فكانوا في شتاتهم أشد انتماءً لتبقى فلسطين موعدهم.
هذه التغريبة الفلسطينية أنتجت نخبة أقلام توهّجت في ميادين الثقافة كافة، منهم: ابراهيم طوقان الذي كتب نشيد «موطني موطني»، ليكون النشيد الرسمي لفلسطين ولاحقاً للعراق وفدوى طوقان: تناجي فلسطين من على ضريح كما أوصت، فأنشدت:
«وتحت ثراها أذوب وأفنى
وأبعث عشبًا على أرضها
وأبعث زهرة إليها
تعبث بها كف طفل نمته بلادي
كفاني أظلّ بحضن بلادي
ترابًا، وعشبًا، وزهرة».
فايز وأنيس وتوفيق صايغ، هشام شرابي عبد اللطيف كنفاني، محمود درويش، غسان كنفاني، ناجي العلي، ادوار سعيد، معين بسيسو، سميح القاسم وسلمان ناطور، جبرا ابراهيم جبرا، كمال ناصر، ناجي علوش، اميل حبيبي، ناصر الدين النشاشيبي، ابراهيم نصرالله.
بيروت .. باب المقاومة الوطنية
بدورها بيروت «صاحبة الباع الطويل والقدرة على احتضان الثقافات المتعددة والموالفة فيما بينها، التي قال فيها يوماً الشاعر نزار قباني «إن الدنيا بعدك ليست تكفينا»، هي كما أتقنت أن تقوم من تحت الردم وأن تعيد ترميم وجهها مرة بعد مرة، سارعت إلى إنشاء المقاهي على حافة أرصفتها مهما وسعت أو ضاقت. مثلها مثل المقاهي الباريسية caf s de trottoir»»، لزمن قريب نسبياً دشنت المدينة وتحديداً في شارع الحمرا العام 1959 مقهى «الهورس شو» لصاحبه منح الدبغي. ولحق به مقهى «الأكسبرس» ومقهى «مانهاتن» و«النيغرسكو» «والستراند» و«الالدورادو» والكافيه دو باري و«المودكا»، ومقهى «الويمبي» الذي نال شهرته الواسعة بعد أن أطلق البطل القومي الاجتماعي خالد علوان رصاصته مسقطاً عنجهية الاحتلال «الاسرائيلي» في 24 أيلول 1982، ومردياً ثلاثة ضباط من جيش الاحتلال. رصاصات كانت كافية لتُدخل «مقهى الويمبي» سجل التاريخ من أبهى أبوابه وأنصعها «باب المقاومة الوطنية».
ومع الايام يغيب الويمبي عن زاويته، وترتفع صورة خالد علوان شاهداً وشهيداً.
كما نبت في شارع بلس على مسافة خطوة من الجامعة الأميركية مقهى «انكل سام» ومقهى «فيصل» و«العجمي» وسط البلد، و«الدولتشي فيتا» في الروشة، إضافة الى كوكبة المثقفين احتضن كذلك عدداً من السياسين وشلة من المنفيين العرب الامر الذي دفع بالرئيس المصري جمال عبد الناصر مهاجمة مقاهي بيروت في إحدى خطبه، وعلى رأسها «الدولتشي فيتا» و«الهورس شو»، لأنها تصدر المعارضين والانقلابيين الى دول العالم العربي، بحسب ما وصله عن أخبار هذه المقاهي.
جاءت نشأة هذه المقاهي في لحظة وفد الى بيروت نخبة من مثقفي وشعراء تلك المرحلة الذين افترشوا أوراقهم على طاولاتها على الأخص مقهى « الهورس شو»: يوسف الخال وقد أسس مجلة شعر، نزارقباني، ادونيس، محمد الماغوط، نذير العظمة وفؤاد رفقه. وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وعصام محفوظ وشكواه الدائمة لأن بيته بعيد عن المودكا ويتمنى لو كان بيته في المبنى نفسه لينزل إليه «بالبيجاما». «الهورس شو» أول مقاهي شارع الحمرا يبقى الأكثر تألقاً ساعده قربه من مكاتب جريدة النهار في رأس الشارع. في زواياه التقى رسامون وإعلاميون وروائيون ومسرحيون. من هنا مرّ أنسي الحاج، الياس الديري، وغادة السمان وصونيا بيروتي بشعرها القصير، روجيه عساف، ريمون جبارة، سعدالله ونوس، بول غيراغوسيان وغيرهم من ذاك الزمن الجميل.
وتبقى أشهر حادثة هي تلك التي حدثت امام مقهى «الهورس شو» مطلع السبعينيات من القرن الماضي، عندما منعت السلطات الأمنية المختصة مسرحية «مجدليون» فتوجّهت نضال الاشقر الى «الهورس شو» وتم تقديم المسرحية على رصيفه وتحت أنظار شرطي السير وحماسة رواد شارع الحمرا. يضحك صاحب المقهى منح الدبغي عندما يروي الحادثة عند حضور «الدرك» فسألوه «مين هيدا المرا يلي مش مهداية وين أهلها»، طبعاً يقصدون الفنانة نضال الاشقر.
اما مقهى «الاكسبرس» القريب من مبنى النهار فاختص بالراطنين بالفرنسية امثال جورج شحاده وهكتور ملاط وفؤاد غبريال نفاع.
يبقى مقهى «فيصل» الأشهر على الإطلاق لصاحبه توفيق سعاده أسسه عام 1919 مقابل بوابة الجامعة الاميركية.
«مطعم فيصل» يوم كانت الرسائل الى اساتذة الجامعة الأميركية تصل بعنوانه من رواده الدائمين أساتذة وطلاباً في الجامعة، فيه كتب سعيد عقل إحدى أجمل قصائده: «سمراء يا حلم الطفولة»، وعنه كتب يوسف صايغ في مذكراته: «كنا ننطلق لنتناول القهوة في مطعم فيصل. كان «فيصل» مؤسسة قائمة بذاتها وصاحبه ذا شخصية فريدة ومحله كان بمثابة صالون سياسي. كان فؤاد مفرج يذهب الى هناك ومحمد شقير ومحمود صائب، كان محل أساساً ملتقى القوميين العرب، ولكن كنا نذهب اليه لنجادلهم نتجادل حول القومية العربية مقابل القومية السورية».
اشتهر ايضاً كلوفيس مقصود مع «خصمه اللدود» المفكر منح الصلح سقراط المقاهي ، وقد شَكَّلا معاً، لفترة طويلة، ثنائي الجلسة الممتعة فكراً وظرفاً. وسعيد تقي الدين وعبد الله سعادة وعبد الله قبرصي وإنعام رعد وأحمد شومان وسعيد تقي الدين ويوسف سلامة، وكمال جنبلاط، ونديم دمشقية وجورج حبش ويوسف الخال وأدونيس وخليل حاوي، وميشال أبو جودة وكمال ناصر وعبد المحسن أبو ميزر وكمال الصليبي وقسطنطين زريق، وامين نخلة، وسامي الصلح الذي كان مغرماً بـ «أكلة المغربية» التي يقدّمها مقهى» فيصل» وفي إحدى المرات دعا أحمد شومان لتناولها المعروف بكره تلك الأكلة، لكنه تناولها تحت إصرار الصلح، وما هي الا دقائق حتى باتت الأوجاع تنتاب شومان فتم نقله الى المستشفى على عجل حيث تبين أنه تعرض لحالة تسمّم المقصود بها رئيس الحكومة لتخرج الصحف في اليوم التالي «احمد شومان يفتدي الدولة، ويتناول طبق المغربية المسموم» وسط موجة من التندّر سادت الأوساط الإعلامية والسياسية.
كلّهم مروا من هناك، وكان مرورهم مرور الكبار، انتهى «فيصل» الى أن يكون «ماكدونالدز» في العام 1985. هي سنوات المجد لبيروت في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وعلى رأي مختار رأس بيروت الراحل كمال ربيز «رزق الله عهيديك الأيام» يا بيروت.
وكانت الحرب التي ألقت بكل ويلاتها على الواقع اللبناني لم ترحم بشراً أو حجراً، على مدى ربع قرن، فانكفأت أمكنة وغابت وجوه، خمس عشرة سنة كانت كافية لخلق شرخ بين جيلين عصفت بكليهما الحرب.
وغاب عن المقاهي آباؤها المؤسسون من رعيل الخمسينيات والستينيات الذين اخلوا المكان ولم يخلوا الصدارة، وانفضت منتديات المقاهي، وخلفهم جيل أبعد من جيل الرعيل الاول وبالكاد قارب جيل «التعجل» بأصابعه المتحركة على الحروف المضيئة لا يركن الا لكتابه الإلكتروني.
المشهد لم يتغيّر: الانحناءة واحدة
وإن بقي المشهد فـ»الانحناءة» ذاتها، ما بين كتاب ورقي أدمنت رائحته، وطبعة الكترونية تحاول ان تقصيه.
وبسرعة وميض الضوء، غزا الانترنت مجالات الحياة كافة في العالم أجمع، وأصبح هو المعيار والمقياس لتطور، وحضارة أي بلد بقدر اندماجه بتفاصيله «العنكوبية». وغدت «مقاهي الانترنت» بديلة عن المقاهي التقليدية وصار اسم القهوة «اسبرسو».
صحيح ان مجتمع «المعلوماتية» أو مجتمع المعرفة، كما يفضل البعض تسميته، على الرغم من انه ظاهرة صحية احدثت تحولات تكاد تكون جذرية في سلوكياتنا العامة بما فيها بنيتنا الثقافية، لكونه إحدى أبرز سمات العصر على الاطلاق كصيغة بديلة عن التواصل المباشر بين الفرد والمجتمع، لكنه لم يصل الى درجة إلغاء التواصل الحسي بين البشر، سواء بين الافراد أو المجتمعات، لأن التواصل المباشر يبقى أكثر فعالية وجدارة في تنمية الفكر والوعي المجتمعي في أي بيئة. من أجل تحقيق اهتماماتهم ومصالحهم وإرادتهم التي تفيد في تطوير ثقافة الوعي على مختلف مداولاته الفكرية والاجتماعية والثقافية. من هنا تأتت أهمية توفير «المكان الثقافي»من أجل عقد اللقاءات وتفعيل الحوارت فنشأت فكرة المنتديات «المنتدى الثقافي» تتلاقى مع مفهوم الصالونات الأدبية ونشطت في المدن العربية، في خلفية المشهد الثقافي. من مهامها السعي الى توسيع إطار التلاقي بين كافة الإمكانيات والطاقات الفكرية من أجل صياغة واقع ثقافي يحتضن الاجيال الثقافية المتعاقبة.
مقاهي ساحة البرج
عرفت بيروت المقاهي تحديداً في أواخر القرن التاسع عشر، فبدأت بالانتشار في ساحات وسط البلد الثلاث «ساحة هال» يوم كان يتوسّطها السبيل الحميدي وساحة «البرج» وساحة «الدباس» ولاحقاً ساحة النجمة. احتلت ساحة البرج الصدارة حيث كان الولوج اليها يتم من كافة الاتجاهات. وبدأت تباعاً تطلق التسميات على بعض المرافق فكانت بناية الريفولي، بناية الكابيتول، بناية الاوبرا، بناية الأمبير، وأصبحت للمقاهي اسماء اشتهر منها: مقهى «القنصل» و«القزاز» و«كوكب الشرق»، «الباريزانا»، «الجارودي»، «اللاروندا»، «فاروق» و«كرم كرم» و«مقهى فلسطين» الذي ارتاده الشعراء احمد الصافي النجفي، محمد كامل شعيب العاملي، محمد علي الحوماني، أما مقهى الحاج داوود فكان من أشهر رواده الشاعر أمين نخلة والفنان التشكيلي مصطفى فروخ، وتناوبوا أيضاً على مقهى البحرين مع سامي الصلح، وعبدالله اليافي، وصليبا الدويهي، رشيد وهبي، الياس ابوشبكة، ومحيي الدين النصولي وحليم دموس، وفي «مطعم ابو عفيف» ولدت قصيدة يا عاقد الحاجيبن للأخطل الصغير الذي كان يتردد اليه مع عمر الزعني.