من يقود دفّة الحكاية؟!
النمسا ـ طلال مرتضى
أقف على رأس الوقت مثل حارس «ساموراي» حوّلته الحرب الباردة صنماً يحتلّ حيزاً لا بأس به من زاوية حديقة مهملة، غالباً ما يفرغ بها السكارى ترسّبات ما شربوه من أنواع الخمرة الرديئة. جلّ ما أمقته تلك الغربان التي لا تتوانى عن قذف خرائها في وجهي من دون مناسبة، لا أدري لما عليَّ تحمّل زعيقها المزعج؟!
لو أن الزمن يدور من جديد فقط لدورة كاملة خلفاً، هل كانت تستطيع استباحتي، هل يجرؤ السكارى عليّ؟ وأنا الذي كنتُ وكنتُ وكنتُ..
يخرج غراب أشعث الريش ـ يتأرجّح على رمحي المُدبّب ـ عن طوره في قهقهة مجلجلة عندما سمعني أتمتم:
ـ كنت.. وكنت وكنت.
ما يُعزّي الروح أن التماثيل والأصنام هي ذاكرة الأمم الحيّٓة، وأجمل ما في هذه الذاكرة، أنها مثل دورة مياه عامة، ملك يمين للشعب، يستبيحها الجميع من دون رادع.
لستُ أدري ما مناسبة تلك المقدّمة السفسطائية، التي أدْخلتكٓ طيّ تفاصيلها كقارئ من خارج النص، لا يهمّه سوى القفلات المنتقاة والنهايات الزاخمة..
أُعلل ذلك لتعاطفي مع تمثال مقاتل «الساموراي» الذي أرقبه من وراء نافذتي وهو يحرس حديقة النزل المبتذل من دون كلل أو ملل منذ سنوات لا أعرف عددها أو لربما كان هذا مثل جرعة منشطة لفتح شهية الكتابة على مصاريعها. لم لا والبلادة تخللت كل مفاصلي من أقصاها إلى أقصاها، حتى أن جُبّ الذاكرة شارف على الاضمحلال، وبات مثل بطاقة ذاكرة «ميموري» مفيرسة أصابها فايروس , بالكاد أنهل منه بقايا ذكريات، أكل العطن وشرب تفاصيلها.
أية تفاصيل مهمة قد ينتظرها القارئ من رجل وُسِمَ بداء الخيبات ووُسِمت به أيضاً، حتى تماهيا معاً مثل جسد فارغ وظله!
أنا أُدرك بسليقة الحكاية، أن القارئ يبحث عمن يروي غرور روحه. يُمني بالقراءة وأحداثها، انكساراته المتلاحقة. يُسْقُط ما تيسّر من وقائعها على أناه بالتمنّي.
ليتني كنت بطل تلك المرويّة، لماذا لا يحقّ للقارئ من خارج تفاصيل الحكاية أن يكون «قجدعياً» بالافتراض ليس إلا، أو مثل «عزيز» رسول «حاموت»؟!
كل هذا مباح، فالقارئ كما الكاتب يحقّ له ما لا يحقّ لغيره بالافتراض. من لديه السلطة أن يمنع قارئاً ما، أن يرتكب معصية القراءة عن سابق ذائقة، وأن يتلبس مثلاً دور «أبو شندي»؟!
ـ «أهااا.. يبدو أن الأمور تخرج عن محاورها، وتنفلش نحو مفازات أخرى». قلت مستنتجاً!!
لعل الكثيرين منكم لا يعرف «أبو شندي»؟ بالطبع هي المرة الأولى التي أعرف من خلالها مكر القارئ وفراغه، أضحك ملء روحي لدرجة كسر رِتم الهدوء، السكون المطبق في تلك الليلة على مدّ بيتي المكتنز بالصقيع. أضحك لدرجة أن طناجر مطبخي المقلوبة على أعقابها منذ ألف طبخة في متخيّلها، باتت تردّد صدى ضحكتي:
«والله عجيب أمر القارئ.. أول ما شطح.. نطح.. مرة وحدة.. أبو شندي». قلت.
الأمر جدّ مغرٍ، فالقارئ العليم يعرف من أين تؤكل الروايات، فيحفظ سياق سردها عن ظهر ذاكرة. بالطبع «أبو شندي» ليس ذاك الصياد الذي شغل الناس وأوصل فيكتور هيجو إلى مصاف الرواد، ولا هو بأحدب نوتردام المدينة الفاضلة التي يتباهى بها الرواة الغربيون، بالمطلق، «أبو شندي» لم يعاصر يوماً رواد النهضة في فترة الحربين العالميتين، كي ينسل من عباءة النمساوي شتيفان زفايج، كراوٍ ضمني لمرويّته الذائعة الصيت، «لاعب الشطرنج» والتي بات القراء يهجسون في تفاصيلها بِحلِهم وترحالهم، كمرويّة لا يروي غرورها من الجوائز الأدبية، غير تلك الموسومة باسم الكبير الفريد نوبل. والأمثلة كثيرة ولا تنتهي، لكنّها وبالمطلق المعلن ملء الكتابة، لا تقترب لا من بعيد ولا من قريب من «أبو شندي». وهنا لا بد من الإيعاز بأن القارئ الذي استحضر فكرة «أبو شندي» إمّا أن يكون قارئاً حذقاً يعرف ماذا يريد، أو أنه لئيم حدّ المكر، افتعل هذا حتى يغيّر وجهة الحكاية لتسعين درجة مئوية، ليدير هو دفتها حسبما يرتئي مقام القول.
أنا أعي بحواسي القرائية كلّها الآن، حنق القارئ، عندما بات يتلمّس عن كثب من خارج النص، كيف أنني أقرأ عداد الكلمات المدوّنة على هامش صفحة «وورد» الحاسب، وقد وصلت أقصى المسموح به من عدد الكلمات التي ستنشر في الصحيفة كمقالة أدبيّة. وهذا سبب وجيه ليجعل النزق يتسلل إليه، حين أتخفّف درب النهاية من دون أن أدلق في قريحته ما يريد سماعه عن «أبو شندي».
تلك حكاية جائرة أخرى يمارسها الكاتب على قارئه الظّمِئ، حين يأخذه إلى البحر من دون أن يسمح له بالشرب، لما لا وقد كان يفعلها بنا قبلاً الذين أنتجوا مسلسل «كساندرا» المكسيكي آنذاك، فقد كانوا يُسدلون شارة المسلسل حين يكون هناك مشهدٌ حميميّ بين البطلة «كساندرة» وعشيقها «لويس دافيد»، والأمر سيان أيضاً فقد حدث هذا الأمر مراراً في المدبلجة التركية «سنوات الضياع»، كلما كان يتعلّق الأمر بلقاء مفتعل بين «لميس ويحيى» بطليّ المسلسل..
«أبو شندي» يحتاج وحده أن نُولم له حكاية، حكايةٌ كاملةٌ من بابها إلى محرابها، كمفازٍ آخرٍ لمقامٍ آتٍ.