من حرضّ على قطع مياه الفرات عن جنوب العراق؟
لم تكن حادثة قطع المياه عن المجرى الرئيسي لنهر الفرات وتحويلها إلى جداول فرعية تقع على تخوم العاصمة بغداد، وليدة أفكار عناصر «الدولة الإسلامية في العراق والشام» داعش والمجموعات المتمردة المتعاونة معهم في محافظة الأنبار غرب العراق، ولا يمكن اعتبارها فعلاً آنياً غير محسوب النتائج، بل هي «عمل شنيع» له مُقدمات، في ظل ترجيحات بوقوف جهات خارجية وراءه.
الخطوة التي لا تبتعد كثيراً عن أتون الصراع الطائفي المُحتدم في المنطقة، يرى فيها البعض بأن مُقدماتها وردت علناً على لسان الداعية السُني المتشدد طه الدليمي، الذي دعا إبان تظاهرات المناطق الغربية العام الماضي، إلى «قطع المياه عن الشيعة» في جنوب العراق.
هذه الدعوة «التهديدية» التي تدخل في إطار التحريض المذهبي والمُخالفة لقوانين البشرية المحلية منها والدولية، صدحت بها حنجرة الدليمي مراراً وتكراراً من على شاشة قنوات فضائية مملوكة لجهات دينية عربية معروفة بعدائها لنظام الحكم الجديد في العراق.
دعوة الدليمي الذي كان يزاول مهنة الطب قبل ظهوره بالثوب الديني المُسيس، وتهديداته المستمرة في هذا السياق، لم تكن الأولى من نوعها، إذ سبقه ابن عشيرته عدنان الدليمي، النائب السابق الذي توعد قبل سنوات بقطع مياه الفرات عن محافظات جنوب البلاد، فيما لو أنشئت هذه المناطق الغنية بالنفط إقليماً فيديرالياً، مؤكداً في تصريحات صحافية أدلى بها آنذاك، أنه ستتم مبادلة المياه بالنفط في حال أعلن رسمياً إقامة الإقليم المذكور.
ويُعتبر «الدُليميان»، طه وعدنان، اللذان يعيشان خارج العراق حالياً، من الداعين لإقامة إقليم في المحافظات الغربية ذات الغالبية السُنية من السكان لـ «التخلص من سطوة الحكومة المركزية في بغداد» التي يهيمن عليها الشيعة، كما يتميزان بـ «خطاباتهما الطائفية». وإن كان الثاني يُعتبر من «أعداء الفيديرالية» قبل أن يطرأ تغيير مفاجئ على سلوكه في هذا الإطار، وشمل التغيير أيضاً تخفيف لهجته الحادة بحكم ابتعاده عن المشهد السياسي، وربما لخشيته من الملاحقة القضائية.
التهديدات بقطع المياه عن وسط العراق وجنوبه، لم تقتصر على المحسوبين على الطائفة السُنية، بل كان للأكراد موقف مماثل، هددوا فيه بقطع مياه دجلة وتفرعاته عن بقية مناطق العراق إذا لم تطلق الحكومة المركزية في بغداد مرتباتهم الشهرية التي أوقفتها لفترة محدودة في آذار الفائت، على خلفية الأزمة الناشبة بين المركز وسلطات «إقليم كردستان» شمال البلاد حول حصة الأخير من الموازنة العامة وإيرادات النفط المنتج في المنطقة الكردية.
السلطات في بغداد أعلنت الأحد الماضي، أن عناصر «الدولة الإسلامية في العراق والشام» والداعمين لهم من «البعثيين» في الفلوجة، قطعوا مياه الفرات عن مناطق الوسط والجنوب من دون أن توجه أصابع الاتهام نحو الخارج.
وعلى غرار سلطات بلادهم، صنف بعض المُعلقين العراقيين عملية حجب المياه في خانة «الأعمال الإرهابية»، لكنهم زادوا عليها لجهة افتراض «وقوف جهات خارجية وراء قطع المياه»، مثلما يقول الجنرال المتقاعد أمجد الونداوي الخبير في الشؤون الأمنية.
ويرى الونداوي أنه «لا يمكن استبعاد فرضية أن هذا الفعل الشنيع الذي أقدم عليه الداعشيون، جاء تنفيذاً لأوامر خارجية وردت إليهم من جهات ودول تريد زعزعة الاستقرار في المنطقة». ويضيف، محلّلاً الحادثة من منظور عسكري، «من المؤكد أنه تم التخطيط لهذه العملية مسبقاً، وهي نتاج لتوجيهات أناس متمرسين سبق لهم الانخراط في جيوش نظامية، والهدف منها على ما يبدو غمر الأراضي المحيطة في الفلوجة المحاصرة عسكرياً لشّل تحركات القوات والآليات المتخندقة في محيطها».
وتحقق نسبياً الهدف المراد من عملية قطع المياه الذي أغرق مناطق أطراف بغداد، إذ تُفيد معلومات مصدرها صحافيون ينحدرون من الأنبار، بأن آليات عدة تابعة لقوات الجيش علقت في الأراضي الطينية التي ترابط فيها على أطراف الفلوجة منذ أشهر، بعد أن غرقت مساحات واسعة بالمياه المحولّة من مجرى الفرات الرئيسي. وحسب الصحافيين، فإن عناصر «داعش» غنمت آليات وأسلحة وباتت تحاصر وحدات عسكرية وقوات «الصحوة» التي لا تزال موالية للحكومة في بغداد.
فرضية «العامل الخارجي» ليست بعيدة عن التداول داخل الأوساط الحكومية، إذ يقول مصدر استخباري مطلع أن «دائرة صنع القرار ترجح إمكان تورط جهات خارجية معادية في هذه الحادثة الشنيعة».
المصدر العليم، الذي يعمل في المكتب العسكري لرئيس الحكومة، أخبر أن «إشارات مؤكدة تلقتها الجهات الاستخبارية تُفيد بضلوع جهات أو حتى قد تكون دول إقليمية مناوئة لحكومة نوري المالكي بحادثة قطع مياه نهر الفرات».
وحول كيفية التورط الخارجي بهذه الحادثة المحلية، يوضح المصدر الذي طلب عدم كشف اسمه، إن «فحوى الإشارات، وهي عبارة عن اتصالات هاتفية اعترضتها أجهزتنا الأمنية، كانت عبارة عن توجيهات مباشرة للعناصر الإرهابية بتنفيذ عملية نوعية تلفت الأنظار، بعد الخسائر التي لحقت بها».
وإلى أبعد من الهدف العسكري الذي أراد المسلحون تحقيقه بحجب مياه الفرات، فإن كارثة بيئية كادت أن تلحق ضرراً كبيراً بمدن الوسط والجنوب بسبب فعلّه «داعش» التي باتت توصف من قبل مختصين بـ «الإرهاب البيئي».