أيّ «لبناني» نريد في مشاريع الانتخاب المتداولة؟

د. وفيق إبراهيم

تعكس قوانين الانتخابات النيابية عادةً خصائص المجتمعات، لكنها تحمل أيضاً في مضمونها قوة دفع إيجابية نحو المزيد من احتواء أمراض التفكّك المتنوّع، إنّما بأساليب غير قهرية.

هل هذا ما يجري حالياً في لبنان؟ هناك مناقشات مفتوحة لعشرات مشاريع القوانين تطرحها قوى مختلفة، تريد منها إلغاء قانون الانتخاب الحالي المسمّى «الستين»، بحجّة أنّه أدّى إلى سيطرة الزعماء المسلمين على نوّاب مسيحيّين.

«الستّون» إذن قانون طائفي طغى على واحدة من الطوائف، وبالاستنتاج فإنّ المطلوب إذن تصحيح العيب الطائفي فيه بتوازن طائفي جديد يُنتج استقراراً اجتماعياً، وبالتالي سياسياً كما هو مفترض. وهذا هو المستحيل بعينه، لأنّ الديموغرافيا اللبنانية أصبحت شديدة التداخل والتباين ولم تعُد توجد منطقة صافية مذهبياً لا تحمل مؤثرات انتخابية من طوائف ومذاهب أخرى.

لنأخذ زحلة مثلاً، هي مدينة مسيحية يتحكّم بالانتخابات فيها الصوت السنّي، بعد أن نجح الرئيس المرحوم رفيق الحريري في تجنيس بدو كلّ البقاع ونَوَره وضخّهم انتخابياً في زحلة، وقضاء جبيل متنوّع بدوره، وتؤدّي فيه الأقليّة الشيعيّة التاريخية دور المرجِّح الانتخابي.

لذلك، وبالعودة إلى المشاريع المتداولة، فإنّ سماتها الأساسية تكشف عن نزوع شديد لدى الفئات المكوّنة للطبقة السياسيّة إلى طرح المزيد من الانتخاب الشديد الطائفية في حركة عودة إلى الوراء غير مفهومة في المنطلق، لكنّها سرعان ما تتوضّح لدى التعمّق في التفاصيل.

وللتوضيح، فإنّ الانتخاب بالمفهوم التاريخي يلعب داخل الجماعات السياسية والطائفية والقبليّة دوراً سليماً في مسألة «الإقناع» على حساب تراجع «العنف» الاجتماعي الذي كان «الوسيلة الأساسيّة في إقناع الآخر». أمّا القاعدة الثانية، فإنّ من وظائف الانتخابات مكافحة الاختلاف الاجتماعي، أي القبلي والإثني والطائفي، بمعادلات تدفع نحو الاندماج والتلاقي لنقل «المنتخِب» من حالته الأولى إلى الحالة الوطنيّة، فيتحوّل من طائفي أو بعلبكي أو شيعي وسنّي ومسيحي إلى.. لبناني ومواطن.

وهنا، يجب الإقرار أنّ كلّ قوانين الانتخاب التي طبّقها لبنان منذ استقلاله في 1948، هي آليّات طائفية متخلّفة جرى وضعها بعناية على أساس مدروس لتقسيم المناطق الانتخابية، بشكل تنتج فيه مجلساً نيابيّاً موالياً للفريق المسيحي المهيمن منذ الانتداب الفرنسي. وهذه ليست تهمة، بقدر ما هي توصيف لحال الواقع.

وتطلّب الأمر حرباً أهلية 1958 ، وأزمات سياسية صامتة في الستينيات، وحرباً أهلية إقليمية في 1975، وصولاً إلى التدخّل السوري العسكري والنفوذ الفلسطيني، حتى تمكّن اللبنانيون من إنتاج قوانين انتخابات جديدة، اتّضح أنّها أدّت إلى هيمنة سنّية درزية حظيت بمباركة شيعية خجولة.

ومع وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، يزداد الضغط لإنتاج قانون انتخاب جديد يعيد التوازن بين الطوائف «نظرياً». وتمكّن فريق الرئيس الجديد في التيار الوطني الحرّ بمباركة البطريركية المارونيّة من سحب «القوّات اللبنانيّة» من الأحضان الانتخابية للفريق السنّي، وإعادتها إلى حظيرة الطائفة.. فتطايرت مشاريع قوانين للانتخابات النيابيّة في السماء السياسيّة للبنان، لكنّ سِماتها الأساسيّة لا تختلف عن بعضها بعضاً إلّا بالانتماء الطائفي، فهذا مشروع مختلط بين الأكثري والنسبي، يؤدّي كما يقول المتخصصون في القراءة المسبقة للنتائج إلى هيمنة مسيحيّة، وآخر يعيد التفوّق الدرزي بتقسيم دوائر على قياس زعماء، وآخر يريد «بنسبيّة» ملغومة جعل أكثريّته الطائفية تستولي على البلاد.. إلى جانب فئات لا تزال تعمل على الإبقاء على قانون «الستين»، لأنّه مُجرَّب وأدّى إلى هيمنتها على البلاد، باعتبار أنّ الانتخابات النيابيّة تؤدّي إلى السيطرة على مجلس النوّاب، وبالتالي على مجلس الوزراء صاحب السلطة التنفيذيّة الأساسيّة.

وهناك من يماطل للوصول إلى حالة تفرض التمديد القسري لمجلس النوّاب بذرائع «تقنيّة» لا تنطلي على أحد، أو التموضع في فراغ سياسي يكشف البلاد أمام الأزمات المحليّة والإقليميّة.

إنّ هذا المشهد السوريالي يدفع إلى طرح التساؤل التالي: أين هو اللبناني العادي في هذه المشاريع الانتخابية؟ ولماذا تختلف قوانين تعيد الإمساك بهذا اللبناني وتضعها نظرياً في إطار طائفة أو مذهب! لكنّه يجد نفسه تحت عباءة زعيم يستعمله حتى الاستنزاف لتحقيق مطالب الطبقة التي ينتمي إليها هذا «القائد الفذّ»، ويرميه كما يرمي منشفة متّسخة و«متشقّفة» من كثرة الاستعمال؟

على المستوى النظري، فإنّ لبنان يضمّ تنوّعاً طائفياً كبيراً ساهم في المزيد من انقساماته الميثاق الوطني وقوانين الانتخاب المشبوهة، وتحالف القوى الطائفية في السلطة التي استولت على القطاع العام فأعملت فيه نهباً وسطواً، وجعلت منه أدوات لإحكام قبضتها على أبناء طوائفها، لذلك يمكن القول إنّ تحالف القوى الطائفية مع المصارف وقوى الإقليم يدفع إلى مزيد من الطائفية العميقة التي تلعب دور الدّاعم لزعماء حوّلوا لبنان مزابل، والكهرباء المقطوعة إلى سرقات ونهب، والقطّاع العام إلى مؤسسة للولاء المذهبي والطائفي وتقديس القادة والمسؤولين، ملوّثي المياه كخدمة لأصحاب معامل التكرير والكسارات وناهبي الأملاك العامّة والشواطئ البحرية والمال العام.

وفيما يتواصل انهمار المشاريع الانتخابية من كل حدب وصوب، يمكن تلخيصها على الشكل التالي:

قانون الستين والإبقاء عليه يخدم حزب المستقبل بشكل أساسي ومعه الحزب التقدّمي الاشتراكي، ولا يسيء إلى الموقف الشيعي.

الأكثري على مستوى لبنان يخدم الهيمنة الشيعية والمسيحية.

الأكثري على مستوى الأقضية والمناطق، لا يمكن التنبّؤ بنتائجه إلّا بعد قراءة طريقة قصقصة المناطق والأقضية، لكنّه لصالح المستقبل – جنبلاط.

أمّا المختلط، فقد يعيد للمسيحيّين بعضاً من تراجعاتهم مع تحسّن في الوضع الشيعي.

النسبية على قاعدة 13 دائرة، يؤدّي إلى تحسّن وضع المسيحيّين والشيعة.

النسبيّة في كلّ لبنان ملغومة ولا يمكن تطبيقها إلّا بعد قراءة عميقة، يجري بعدها وضع ضوابط تمنع الغلبة الطائفيّة، فما هو المطلوب إذن؟

استناداً إلى الداء الأساسي الذي يعمل دائماً على تفكيك اللبنانيّين، يجب «اختراع» قانون يعالج هذا الداء، ناقلاً اللبناني تدريجياً من «وظيفة» الطائفي إلى «دور» المواطن. وهذا ما يجب أن يتّجه إليه قانون عصري للبلاد.

لكن دون هذا الأمر معوقات كثيرة، تأتي في مطلعها قدرة القوى الطائفية على فرض رغباتها في غياب الأدوات التي تدافع عادة عن مصالح المجتمعات، وهي النقابات والأحزاب ووسائل الإعلام، وهي أدوات تعمل حالياً في خدمة المشاريع الطائفية.

هناك إذن تحالف يلعب دوراً رجعياً ومانعاً توحيد الناس ومبارَكاً من المؤسّسة الدينية التي تريد الحفاظ على دورها وامتيازاتها، فلا تتورّع من إصدار فتاوى وعظات لخدمة السلاطين.

ويعتقد الباحثون أنّ انتقال لبنان من المرحلة الطائفية إلى المرحلة المدنيّة، يتطلّب إقرار قانون يساوي أولاً بين اللبنانيّين في عدد النوّاب الذين ينتخبونهم، فليس معقولاً أن ينتخب الناخب الصيداوي نائبين فقط مقابل انتخاب البعلبكي عشرة نوّاب، ويقترع ابن بشرّي لنائبين مقابل ثمانية نوّاب للطرابلسي مثلاً أو للشوفي!

لذلك، فإنّ النسبيّة تبقى النظام الأفضل لوحدة اللبنانيّين بمنطق الحاجة المتبادلة، لأنّها الوسيلة الوحيدة التي تجعل الطرابلسي بحاجة إلى ابن جبل لبنان والبقاعي إلى البيروتي والجنوبي إلى الشمالي، وهكذا دواليك.. ويُفضَّل أن ترتبط بالنسبيّة بشكل مؤقّت ولدورتين انتخابيّتين متتاليتَين، المناصفة الطائفية والتقسيمات المناطقية.

بهذه الطريقة يتمّ تأمين العدالة بين المواطنين وتأمين المساواة في قوّة أصواتهم، ويدفعهم نحو الوحدة الوطنية استناداً إلى قاعدة الحاجة المتبادلة، مؤسّساً لمناخ وطني يؤسس أحزاباً وطنيّة فعليّة خارجة عن البعد الطائفي، وتتمتّع بقوّة في الجغرافيا السياسية للبنان.

ويجب أن يواكب هذا التطوّر الانتخابي رفع يد الطوائف وسياسيّيها عن التعليم الرسمي الابتدائي والتكميلي والثانوي، مع تحرير الجامعة الوطنية من هيمنة المذاهب والزعماء، فيصبح التعليم وطنياً غير طائفي.

هذا هو المرتجى، لكن دونه تراكمات قوة لتحالفات زعماء المذاهب الذين يمنعون التطورّ ويكبّلون البلاد بأساطير مذهبية، تؤدّي إلى تخليدهم هم في مواقعهم، لكن التطوّر قاعدة تاريخيّة وهو آتٍ إلى لبنان، ولو طال الزمان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى