زيارة خاطفة إلى عرسال: مغامرة حمقاء تكسر صمت الصورة الظرفية!
جهاد أيوب ـ «البناء»
يتهيّأ الداخل إلى عرسال كما لو كان سيدخل إلى منطقة منكوبة وهادئة ينتظرها الفيضان، ويعيش كل مراحل ما قبل الدخول إليها كما لو كان ذاهباً إلى أرض معركة لن يعود منها، والصور التي ترتسم في خياله هي صور منكوبة ومنكسرة ودامية لا اخضرار فيها، ولا ماء أو شجر، هناك في الذاكرة كل المشاهد متحطمة، وكل المفردات مهرولة، وكل البشر إلى جمود، وما أن يصل حتى ترتسم أمامه معارك حدثت وأخرى قد تحدث، ولا مجال من الهروب إلى عكس ذلك، فالبيوت وأشجارها حزينة يسكنها الخوف، وغالبية من تلتقيهم لا يسبقونك بالسلام بل أنت تتعمد الكلام، تنظر إلى وجوههم فتجدها كئيبة ذات نظرات قلقة حائرة، لا يكثرون بالكلام بل مفرداتهم تختصر الجُمل، وينكبون إلى الاستماع ومن ثم يبادرون بالرحيل من دون تكملة أجوبتهم عن سؤال أنت طرحته، أو عن استفسار معين… تتنقل في البلدة التي شغلت العالم بحذر، ليس من الأهالي بل من أن ينبت أمامك الدواعش فتتلبك وتصبح مع المخطوفين ومنهم، أو يخرج أحدهم ويدعي انه من المشايخ ويستضيفك في منزله من دون حركة أو السماح لك بالعودة بحجة أنه يحبك ولا ينام الليل من دونك، وبقدرة القادر يصبح نجماً تلفزيونياً لا مجال أن لا ينافس في طلاته هيفا وهبي، ويبدأ بالتنظير، وبأنه من المواطنين الصالحين ولا يؤمن بالطائفية وكلنا من لبنان! ومن تحت الطاولة يمرر رسائل يرغب من جراء ارسالها بفدية مالية وبتصحيح أوضاعه وأوضاع أقاربه والجيران، ومسح ملفاته الإرهابية في المحاكم اللبنانية، أو يبيعك لدولة لديها مصالحها في المنطقة!
من المستحيل أن تغيب عنك تلك الصور الظرفية، ومن الجهل أن لا ترافقك فهي مطبوعة في اذهاننا نتيجة الإعلام وما صوره لنا… حاولنا الاقتراب من الناس فلم نوفّق، ومن كان رفيقنا في الدخول وهو من أبناء عرسال حاول أن يؤمّن ما استطاع لنا لكنه وبعد الوصول حاول أن يحافظ فقط على حياتنا وأن نعود سالمين إلى ديارنا… أصيب بالصمت الكبير وبالندم الأكبر، وفقط أخذ يتحدث همساً… عاش طيلة وجودنا الذي استمر أقلّ من ساعة، الخوف من خطفنا، وهذا ما أشعل فتيل عصبيته في تصرفاته وفكره وردوده، وندمه لأنه وافق على هذه الزيارة غير المسؤولة والحمقاء والمتهوّرة والمغامرة كما أخبرنا حينما خرجنا من عرسال!
لن اطيل شرح المشاهدة، ولن أغوص بصور لا تبشر بالخير، ولن اعتبر الزيارة سبقاً ولن أبوح بكل ما وصلَنا لأن عرسال بلدتنا مهما سرقت، ولكن لا بد من القول إن البلدة ليست كما قيل وبأنها مدمرة، وبأن منازلها غير صالحة للسكن، وخالية من أهلها… الحياة فيها شبه طبيعية، الناس تتجوّل، والمحلات مفتوحة، والخضار والفاكهة متوافرة، والفرن الذي يبيع الدواعش أكثر من 30 ألف ربطة باليوم لا يزال يستقبل الناس، ولكن لا شيء يتحرك على طبيعته رغم حركة البشر والشجر، عرسال ومن فيها في سجن الذات والإرهاب والمصالح الخاصة التي توصل البعض إلى المال السريع على حساب أهله وبلده بحجة أنّ الشاطر بشطارته في زمن غياب الدولة ومفهوم الدولة، وفي غياب تحمّل المسؤولية، وعدم عقاب الزعيم الفاسد والسارق والقاتل، المصالح الذاتية تترك لهذا البعض حرية التنقل التصرف البوح والشعور بأنه القائد، أما من في الخلف فهم مجرد أناس لا يوافقونه التصرف لكونهم كما غالبية المواطنين اللبنانيين هناك أعجز من العجز في فهم الوطن ودور الدولة، وهذه الأخيرة تركتهم لهوامش مفهوم الدولة!
الناس هناك كما غالبية من يعيش في تلك المناطق، مهملون من قبل الدولة، والدولة عندهم مجرد كلمة لا لون فيها ولا حضور لها، يلحسون الأمل من فجر التفاؤل فلا يجدون غير الهجرة أو الكسل، يلهثون وراء استكمال العيش كما يشاهدونه في الفضائيات وكما يرونه عند زعيمهم فيقرّرون «التهريب» لأن الداخل مفقود والخارج منتوف… يبحثون عن مستقبل شبابهم فيجدون أن الهجرة أو الفهلوة والشطارة الكاذبة هي سفينة الخلاص كي يستمروا، باختصار المناطق الحدودية اللبنانية وتحديداً في تلك المناطق المحرومة والمتروكة من قبل الدولة لحوت الحياة لا تعرف الحدود، بل هي مدمنة مصالح ذاتية كي يعيش من يسكنها، وتبحث عن التهريب كي يختلف أهلها في ظل الفقر وهجرة الدولة!