إضاءة

نصّار إبراهيم

لمناسبة يوم المرأة العالمي 8 آذار وأمور أخرى .

لقد تأسّس عنف اللغة على هذا الصعيد عبر صيرورة تاريخية اجتماعية اقتصادية وسياسية عميقة، شكّلت بمجملها منصّة صعود وهيمة الفكر العنصري والاستعماري ضد الشعوب والأمم الأخرى، وكنقطة انطلاق وبهدف تشريع الاستعمار ونهب الشعوب الأخرى يتم في البداية إسباغ قيم حضارية وإنسانية على الدولة الاستعمارية باعتبارها تقوم بتأدية رسالة إنسانية جوهرها تحضير الشعوب الأخرى. من هنا جاء مفهوم «حِمْل الرجل الأبيض»، هذا الفكر العنفي وترجماته اللغوية قاد إلى ويلات ومجازر ومذابح وحروب في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كما قاد إلى العبودية المروعة في أفريقيا وإبادة ملايين السكان الأصليين وخصوصاً في الأميركيتين الشمالية واللاتينية. كل هذا إلى جانب تدمير ونهب الإرث الحضاري.

عنف اللغة والمرأة: استغلال وإخضاع المرأة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً جرى عبر عملية اجتماعية تاريخية طويلة، ما أدّى في النهاية إلى هيمنة القيم والثقافة الذكورية كمرجعية للقياس، أي التمركز على الذات الذكورية «أندرو سينتريزم»، فيما المرأة تابعة وخاضعة.

لقد جرت هذه العمليلة كصيرورة طويلة. وهي موغلة في الخطاب والثقافة وصولاً إلى مسؤولية المرأة عن الخطيئة الأولى، من دون التوقف أمام سؤال بديهي: ما دامت العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة وحتى قبل اكتشافها أي قبل لحظة حدوثها الأولى تعتبر خطيئة، فلماذا تم خلق الجنسين الذكر والأنثى أصلاً؟ وإذا كان هذا الأمر قابلاً للنقاش على صعيد الإنسان الواعي، فكيف نفسّر ونبرّر ممارسة الكائنات الأخرى لهذه الخطيئة وبصورة غريزية وفطرية؟

لقد جرى تمرير وتبرير هذه الإزاحات من خلال توظيف الفوارق البيولوجية الطبيعية وما يرتبط بها من أدوار اجتماعية بحيث تصبح تلك الاختلافات البيولوجية الطبيعية معادلة للنقص وعدم الكمال والسويّة الفيزيائية. هكذا تصبح الأنثى ضعيفة بذاتها، هشّة، عاطفية، لا عقلانية، عورة، عار، كل هذا من أجل الحطّ من قيمة دورها وقيمة عملها وبالتالي الحطّ من مكانتها الاجتماعية. إنها تصبح «مَرا/إمرأة» وهكذا، تكريس فكرة «الخلل» في الطبيعة البيولوجية للمرأة باعتبارها مسلّمة، هو تعبير عن حكم قيمي ثابت ونهائي، ذلك لأنه يعبّر عن «اختلال بيولوجي» طبيعي كمعطى موضوعي لا يمكن تغييره.

وهكذا أن يصف رجل رجلاً آخر بأنه «امرأة» هو قمة الإهانة، وقد ترسخت هذه العملية العنفية بامتياز حتى أصبحت ثابتاً اجتماعياً عاماً، إلى الدرجة التي أصبحت معها نسبة عالية من النساء «مقتنعات» بذلك، فكثيراً ما تصف بعض النساء الرجل النذل بأنه «امرأة»، لنتخيل المستوى المروع لهذا الاستلاب، بمعنى أنك حين تريد أن تهين أحدهم أن تصفه بذاتك بما أنت، أي بماهيتك كمقياس مرجعي للتحقير والإهانة. إنها ذروة العنف الرمزي واللغوي، وحالة استلاب نفسية مطلقة.

في هذا السياق تأتي معظم الشتائم ذات المضمون الجنسي: «شر…، قحبة، عاهرة، ساقطة»، وكأن هؤلاء يمارسن «مهنتهن» مع الفراغ، أي من دون مستهلكين ذكور!

يترتب على هذه العملية منظومة من القيم والسلوكيات والممارسات الاجتماعية التي تستهدف في النهاية حقوق المرأة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجنسية والعاطفية واحتكارها واستغلالها لصالح الهيمنة الذكورية.

فتبح المرأة التي تطالب بحقوقها الجنسية مثلاً وقحة، والتي ترتدي لباساً يتناقض مع مرجعية الحياء والخجل وفق المعايير الذكورية هي دعوة لاستباحتها. أو أن مطالبتها بحقها في أجر متساوٍ هو مطلب غير عادل ذلك لأنه مناقض لنقصها البيولوجي، وكل ذلك يعني أنّ المرأة تقع في مرتبة أدنى من الرجل على الصعد كافة.

هذه هي بعض مظاهر عنف اللغة السلبي، غير أن عنف اللغة هذا لا تقف حدوده عند هذه الأبعاد، ففي سياق هذه العملية يولد نوع آخر كردّ فعل، وهو ما يدعوه لوسركل بـ«المتبقي» في اللغة، أي الذي يروغ من قواعد النحو ويتفلت من قوانين الألسنة التي درسها وصاغها فرديناند دوسوسير. وهذا الجانب هو الذي يرتع فيه المبدعون والشعراء والصوفيون والمهووسون ومن شابههم. ومع أن الممارسات في هذا الجانب لا تسير بحسب قواعد النحو، إلا أنها، كما يؤكد لوسركل، تغني اللغة وترفدها ولا تنقض عراها من مقدمة كتاب عنف اللغة .

السؤال هنا: لماذا يذهب المبدعون والشعراء والصوفيون، إلى هذا النوع من اللغة التي في كثير من الأحيان تخرق القواعد وتتجاوز المعقول؟

قد يرى البعض في ذلك ترجمة لعبقرية الإبداع، يمكن قول ذلك نسبياً، ولكن لماذا؟

هذه المراوغة في اللغة تعود إلى الاختلال في معادلات الواقع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وما ترتب عليها من محرمات في اللغة، كعنف الاحتلال في مواجهة مقاومة شعب تحت الاحتلال، والعنف والقهر الواقع على المرأة ساسياً وعاطفياً واجتماعياً، والعنف «الديني»، كل ذلك يدفع إلى التجاوز وتخطي الكثير من قواعد اللغة،. طبعاً هذا إضافة إلى تفاعل الوعي مع الأسئلة التي تنبثق في مواجهة الإنسان في كلّ مرحلة من مراحل تطوّر البشرية بما هي أسئلة وجودية وفلسفية وجمالية. وهذا شأن آخر يحتاج إلى نقاش من مستوى مختلف.

ولكن بالعودة إلى سياق النقاش حول المستوى المتعلق بالإبداع وانعكاس علاقات القهر السائدة عليه نلاحظ أنه حين يكون الواقع قاهر وقمعي فإنه يصبح من الصعب الحديث المباشر عن الآحلام والطموحات والحقوق والحرية،على سبيل المثال، التعبير عن الانتماء وحب الوطن، أو الحبّ أو الجنس، حينها يتم تجاوز ذلك عبر الإيغال في الرمزية والإيغال في تجاوز قواعد اللغة وتكسيرها لكي يتم تجاوز الرقيب المباشر أو الذاتي، هذا بالضبط ما عناه محمود درويش في مقابلة مع فضائية «LBC » اللبنانية 1997 حين قال: «أنا أنزعج من شيء واحد، أن تعرف بطاقتي الشعرية بالبعد السياسي. نحن نعيش في مناطق متوترة ومتأزمة أصبحنا فيها رقباء على أنفسنا، فكثرة التعامل مع الرقابة والإدمان عليها قد تحول الشخص إلى رقيب على نفسه، لكن في الشعر يبدو أن الإحساس بوجود رقيب قد يطور جماليات الشعر، وأنا في رأيي إن أي قصيدة يفهمها الرقيب ويمنعها يكون العيب في القصيدة وليس في الرقيب، على القصيدة أن تكون أذكى وأكثر جمالية وحرية، ملتبسة على فهم الرقيب المباشر لها، فالشعر الجميل والشعر الحقيقي هو الذي يعتمد على حركة المعنى وليس المحدد، والذي يتناول الأشياء تناولاً غير مباشر، يستعصي على الرقيب، وربما يحبّب الرقيب بالعمل».

خلاصة القول، ما تقدم هو مرور سريع على مسألة وحقل في غاية الخطورة والتعقيد، وبالإمكان إغناؤه بأمثلة لا حصر لها، كما بالإمكان الذهاب عميقاً في بعض الجوانب والحقول لنكتشف عوالم لا تخطر لنا على بال.

في النهاية، ما أريد التأكيد عليه، أنّ اللغة التي نستخدمها هي فاعل هائل، فما نقوله ليس مجرد كلمات، أو جمل، إنها اللغة تأتي بكامل عدّتها وقوّتها لتقتحم وعينا، فتعاقب، وتستبيح، وتهمّش، وتستثني وتهين، وأحياناً ترتقي وتضيء.

اللوحة عن صفحة الصديقة عبير الفتال ـ سورية .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى