الشاعر نهيد درجاني لـ«البناء»: الشعر لا يحتمل السليكون ولا ترميم التجاعيد ولا شدّ البشرة

حاوره: أحمد الشيخاوي

هو مبدع حقيقي قلّ نظيره في زمن الغوغاء ومشهد مرتبك شانه مثْلبُ التجنّي المبالغ فيه، على الشعر خصوصاً، بحيث تفاقمت حمّى استسهال عوالم التعاطي مع هذا الأخير حدّ إفساد الذوق و تفشّي موجبات هجرته إلى بدائل تعبيرية كالرواية.

حدّ خلط الخاطرة بديوان العرب.

بذلك طفت أعراض جانبية تنمّ عن حالة مرضية وشيكة متربّصة بجيل مهزوز الرؤية ومتخبّط بين هواجس أعباء الذاكرة ومغريات الانفتاح على الآخر وغير عابئ بسلّم الأولويات في بناء الذات والهوية والمحيط.

جيل تسرقه الأحلام من واقعه، فيتوهمّ الشرعية والمبرّر لحرق المراحل «إبداعياً» وكأنه عن قصد أو غيره، خلف تخوم اجترار الأدب المهجّن والدخيل، دونما استساغة أو غربلة، يسعى إلى حتفه وطمس ملامح هويته الثقافية، مثلما تزيّن ذلك وتريده له مرايا مضللة ما تنفكّ تحرّضه على القطيعة مع الموروث والتحرّر من عقدة الأب.

فلنرحّب بالشاعر اللبناني البديع نهيد درجاني، عبر هذا الحوار الأثيري يشفع لنا فضولنا المعرفي والجمالي، خطوات الولوج العاشق وماتع الغوص في خلفيات ألوان النص المفتوح إذ يدشّن رمزيا وتجريبيا حجر التقعيد لكتابة حقبة ما بعد قصيدة النثر.

بداية شاعرنا، هلاّ تتكرّم بتقريب المتلقي من معالم حياة وشخصية وتجربة نهيد الإنسان والمبدع كلاهما؟

ـ لا أخفيك بأنني أشعرُ بقرصة بردٍ من جرّاء كلمة: شاعر. كما أشعرُ بارتفاع مفاجئ في حرارة جسدي جرّاء كلمة: مبدع. اسمح لي أنْ أصوّب بوصلة ذاتي أولا: في أحد نصوصي أقول: لم أولد مهيئا لهذا الداء لا أحد من سلالتي أُصيبَ بجدريّ الشّعر… نعم. الشّعر داءٌ، عضالٌ. لا شفاء منه. لم ولن أحشر نفسي في خانة الشّعراء، لا تواضعاً ولا دعةً ولا هروباً من المقاييس، بل توصيفاً جوّانياً لحقيقة ذاتي، فأنا بحمد ربي، أعيش بجوار مرآةٍ صقلتها جيداً كي لا أفترسَ ظلّي مع انحدار قوس الشمس. أنا كاتبُ نصٍ، نصٍ هجين، لا هو نثري بالتمام ولا شعري بالكمال. أكتبه كي أقتلَ الضجرَ، أكتبه كي لا يقتلني الضجرُ، أكتبه كي لا تنسى رئتاي أن تقوما بعملهما. بدأت محاولة الكتابة بسنٍ مبكّرة، حاولت كتابة القصيدة المحكية لسنوات، لكن المرادفة والمفردة العامّية كانت تضيق وتضيق كلما توغّلت في الكتابة. ثم هربت إلى محاولة كتابة بعض القصائد العامودية، فرأيتني مجدداً أختنق في كل قصيدة، لأتوقّف عن المحاولة لفترة طويلة، قرأت خلالها جماً من الشعر، إلى أن وجدتني كاتباً «فايسبوكياً» يومياً منذ عام 2011.

ثمة من يعتقد باختزال عمر الشاعر في قصيدة وحيدة يتيمة، قد تجيء كباكورة للمنجز على ترامي ظلاله، وقد تتوسطه أو تذيله. القصيدة ذات مطلع «إذا الشعب…» لأبي القاسم الشابي، مثلاً… إلى أيّ حد يمكن تزكية هذا الطرح أو تفنيده؟

ـ أعتقد جازماً أن هناك ظُلامة مريرة باختصار أبي القاسم الشابي بقصيدة. نتحدث هنا عن شاعر عاش 25 سنة فقط، حتى اختصار الشابي بقصائده المغناة من كبار المغنين العرب لهو من الظلامة بمكان. الشاعر هو مسيرة، خلاصات، عصارات، توتّرٌ إيقاعي وليس بالضرورة أن يكون تصاعدياً ، والحكم على المنجز الشعري خارج هذه المقاييس هو ظلم بحقّ الشاعر. بل أذهب إلى أبعد من ذلك: ليس من العدالة بمكان تجزئة التجربة الشعرية لشاعر ما، فهي أشبه بفرط عقد بديع من اللؤلؤ حبّة حبّة، فلا يبقى من بداعته شيء.

هل القصيدة بخير حالياً؟

ـ وهل يجب أن تكون القصيدة بخير؟ القصيدة تجدّد خلاياها، تُقشّر جلدها، تغربلُ زؤانها. القصيدة التي لا تعاني من الفطريّات هي مومياء لا رطوبة فيها ولا حياة.

أتاح فضاء الإنترنّت إمكانية النشر الحر، بعيداً، سواء عن مبدأ اللاغائية والعبثية التي تنتهجها منابر إعلامية كثيرة، تعوزها الخبرة والدراية في تقييم وفرز الصالح من الطالح فهي تشرع الباب على مصراعيه لمن هب ودب في مجال الإبداع عموما، تحشو كل ما يعرض عليها، يهمها تأثيث صفحاتها فقط، وأخرى وإن متخصصة تقع فريسة لخيوط سمّ الاصطفافية والاكتفاء بأسماء القيدومين وإقصاء الأصوات المبتدئة مهما بدت جودتها وجديتها وحدة زوايا معالجتها للراهن.. هل للنص الرقمي معايير يجدر بالواعدين مراعاتها؟

ـ أستاذي الغالي، فتحت بي جرحاً عميقاً بسؤالك هذا، هذا السؤال الذي يحتاج لصفحات ونقاشات طويلة. سأوجز: أمام ما يجري اليوم، أشعر كمصاب بذي القطبين. تعتريني سعادة كبيرة حين أرى الشعر وقد أضحى طاعون العصر وموضته، وكآبة عظمى من هول التعظيم والإكبار على التفاهات والاجترار والقص واللصق…. أشعر بالاعتزاز والفرح لنمو المنتديات الشعرية، وبالكآبة لكيفية إدارتها. قلتُ وأقول: الشّعر لا يحتمل السيلكون، ولا ترميم التجاعيد ولا شدّ البشرة. الشّعر لا يحتمل عقود البيع والشراء في دور النشر. الشعر لا يحتمل جحا وأهل بيته أخاف على الشعر من قطاع الطرق، من تجّار الرقيق، من مهربي القصائد كحشيشة الكيف…. أخاف على طائفية الشعر على مذهبية الشّعر على انتسابه إلى الأحزاب المتناحرة.

هل تحمل الجوائز والأوسمة والمهرجانات دلالة ما قد تجذب إليها مبدع دون سواه؟

ـ مهما تأنّق الشاعر وتسامى، لا بدّ أن يسيل لعابه لجائزة أو وسام أو مهرجان مفتوح كليمونة حامض على مصراعيها. إنما، المبدع هو من أبدع في حسم الصراع بين نقاء روحه ومغريات الأيام، فاختار ما يليق بقامته إذا أتاه من غير طلب أو استجداء.

هل من حلول مُسعفة لانتشال القصيدة من أزمتها؟

ـ فلندع القصيدة بعيدة عن أهوائنا وميولنا وغرائزنا. القصيدة لا تحتاج لأكثر من ذلك.

يسرّنا أن تقتطف لنا بعض الذي يدغدغ جوارحنا، ويسلّمنا طائعين لرعشة الإصغاء لزقزقة آخر ما جادت به أناملك.. تفضل:

لا أحمل هويتي في جيبي الخلفي،

كي أرحلَ كالغرباء.

فأنا وُلدتْ من أبٍ غريبٍ وأمٍ غريبة، في غرفة غريبة من بيت غريب.

وكبرتُ في شارع غريب من بلدةٍ غريبة في وطن غريب.

ولا أحملُ جواز سفري بيدي،

كي أرحلَ كسنونوة ضجرتْ من النوم في حقلٍ ضجرَ من تكرار حشيشِ جسده.

ولا أحملُ حقيبة، أخاف أن أضعَ في بطانتها امرأة وفي سحّابتها قصيدة.

ولا أحملُ حالي،

سأتركه لكم،

وأرحل كالغرباء.

كلمة الختام:

ـ شكراً لتفانيك في الإضاءات الدائمة على مشاريع شعراء وبشكل غير مسبوق. شكرا لأسلوبك في النقد، هذا الأسلوب الحد اثوي، البعيد عن حشو الكلمات التقنيّة التي اعتادها النقّاد، فيأتي نقدهم موجها لنقاد آخرين، كتبارٍ زجليّ في قاعة مقفلة. شكرا لوقوفك إلى جانبي في أكثر من محطة، خصوصاً أني كاتب «فايسبوكي» لا أكثر، لا أملك ديواناً مطبوعاً ولا مقالاً في جريدة ولا نصّاً في صفحة ثقافية. وأولاً وأخيراً شكراً لك من شين الشكر إلى رائه.

شاعرنا نهيد درجاني، نشكرك أن أتحفتنا بهذه الباقة من الإدلاءات التي قرّبتنا أشواطاً من جبّ أسرارك وكنوز عندياتك، فأهديتنا بقلب مفتوح غيبوبة الاغتراف من بعض بوحك العميق والجميل المتسربل بنزعته الفلسفية والوجودية، وأغدقت علينا بمعسول أنهارك الأخرى مثلما عهدنا بك، تجري دافقة رقراقة وراقصة على إيقاعات النبض الهامس لصفحاتك عبر «فايسبوك» كمتاهة زرقاء ليس عمومها طلاسم وهذيان وعتمة.

شاعر وناقد مغربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى