فطام الصبر… نصرنا اليمانيّ المحقق

الذكرى وصيّتنا للأجيال المتعاقبة، وذاكرتنا المصلوبة على ضريح من رحلوا بسبب الحرب، وأدخلونا برحيلهم دار الفقد من أوسع أبوابه. وها نحن نداوم على تلك الذكرى المستمرّة في فصولها حتى اللحظة.

من باب حرصنا على مشروعية العدل وأزلية الحقّ، وها قد مرّت سنتان من بداية العدوان، سنتان دؤوبتان قاسيتان، في باطنهما عرفنا مواجعنا الجمّة ودفنّا شغاف قلوبنا، وأغمضنا للحسرة أعين الألم، وكفّنا خلالهما المدارس، والمساجد، والحقائب، والسنين.

أخرجنا صغارنا في فسحة الشهادة قبل موعدهم، محمولين على الأكتاف، ساكنين مثل طمأنينة الورد، وهادئين مثل نضوج الأحلام، ومبتسمين مثل روائح الفردوس وحوريات البحر.

ثم طبطبنا على أنقاضهم بالآه المريرة، وبالشهقة الصاعدة بالأجساد نحو باب إله لا يقفل. نضمّد جراحنا بالقبل وبالنظرات الشاخصة نشتكي نحو السماء، لأننا واسينا المفجوعين من حولنا ببعض الكبرياء.

فلا شيء أعاننا على مواراة الأحباب سوى جرعته ناصعة الألق وأغصانه باسقة الكبرياء. أما على قارعة اللون الأسود، فكان يؤذّن الموت للحداد في كل لحظة

في غالبية الحارات والشوارع والقرى والأفجاج والحنايا. لا بل يفترش فيها أكبر أحزاننا ويطوف بها قرانا وحواضرنا كأنه يتعطش لسبي أحلامنا المبسطة، ويتوحش في نحور فقرنا وخذلاننا وصغارنا اليافعين.

وها هي السنة الثانية تنقضي مثل سابقتها، لكنّها تنقضي خجلاً أمام جلالة صبرنا وبساطة ما نملك. تنقضي خجلاً أمام ذكرى تاريخه الملتصق بالجرم البواح

والمرتبط بالحال اللامتكافئ بين ملوك النفط ومظلومية اليمن الصابر.

ها هي السنة الثانية تنقضي متلعثمة، وهي ترى أنّ الصلف الغاشم عبر السنتين المنصرمتين لم ينتج لطواغيته من حصاد إلى جانب جنونهم سوى محصول الفشل وخفّي حنين بعد إزهاقنا باطل عدوانهم على يد الحقّ المنحاز إلى أصحابه.

ها هي السنة الثانية من عدوانهم ترحل، إنّما متشظيّة على صخرة الوطن المؤمن البسيط المستمسك بالعروة الوثقى.

نعم، لقد ذهب عام عدوانهم الثاني، وقد صرنا نعتاد كلّ ما سبق، ولسنا آبهين بما أضمروه لنا من طغيان ما دام الصمود يلبس ملبسنا ويتنفس بأرواحنا، ويعيش بيننا في صبره وجلده وأمله وتناقضاته، لا بل يشبهنا في غبرته الساحنة ولهجته الدارجة أمام سطوة هذا العالم الذي لا يدري.

نحن أدرى أنّ عامين من الصبر كافيان لفطام الحزن، لا بل كافيان لإطعام ابن العامين رغيف النصر. لقد أرضعته الظروف من دموعنا ودمائنا حولَين كاملين

حتى أصبح صبيّنا من لحمنا ودمنا. فكيف يبوء ناتج صبرنا بالفشل وكيف تفتري علينا كل الأوقات بما يؤلم؟

لا بدّ أنّ في القريب فرحاً، وفي الآتي لقباً يسمّينا بأسماء أعياده، ويوافينا بأنفاس الضحى. وكل ما حشدوه تلقفه بنادقنا، وحرائقنا لا تبقي من عبيدهم ولا تذر.

هي بلادنا بالمنطق الحاسم لا تساوم ولا تستسلم. فكلّ ما صنعوه من شرّ خلال عامين بات أثراً جانبياً، بات خصماً أرعن الوهم يتخبّط بالفشل ويأتي بالنفخة ويعود في كفن. لا بل يأتي بالسخرية ويعود بالعويل على أعقابه. أما كلّ أثقال عدوانيتهم هي بالنسبة إلينا عادة، الموت والدمار والحصار، الزحف والزاحفات والزائفات. فالعبرة في نهاية السباق، والخاتمة عنوان مضمارنا الأبرز.

لذا، لا تستحدثوا أوهاماً تخبركم أنّ آلامنا أعجزتنا عن البقاء، وأنّ مآسينا أجبرتنا على نسيان ما أقسمنا عليه. وأنّ أتعابنا تجعلكم الأقوى. هذه خزعبلات ضمائركم عندما تبدع في تزييف حقيقة ما يجري، حتى أحدثت في عاجية مصطلحاتكم شرخاً وتفتيتاً.

أما نحن، فسنبقى هنا كما تعوّدت علينا هذه البلاد وتلك الأيام، نضاهي الجبال ثباتاً ونبتسم لسماء ذات بروج، ونأتي مع بزوغ الفجر ننشر أجنحة المنال ونتناسق في أسراب الحياة المتكبّرة على إثم الظروف.

سنبقى هنا في ريعان الصبر ومع حصافة الكبرياء نحيك بمغزل الفداء أيامنا المنتظرة

مهما جاء كلّ أمر هنا أصعب من تاليه وسابقاتة علينا، وكلّ حاجاتنا فيه شحيحة المنبع إلا من ذلك الكبرياء الذي يرفض تسليمنا لمقصلة ذليل وعبثية طامع. لقد طفقنا على سطح معانيه نرقب آتينا المشروط بالجَلَد، مصمّمين على تذليل الهوّة بين بقائنا وحساسية الوضع، مثلما كلّ الخيارات لا تعنينا إن كان في مضمونها خنوع وفي نتائجها إذلال مهما استخدم العدوان كلّ أساليب الإفك المنحطّة وجرّب جلّ الأسلحة المحرّمة

مستعرضاً بقصفه على الصالات والأسواق والبيوت، ومتفاخراً بقصف تجمّعات الأعراس ومجالس العزاء.

ماهر عقبة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى