لا… الأساتذة الثانويّون ليسوا «معتّرين»!

د. وفيق إبراهيم

أُصيب متابعو الشاشات المحلية بدهشة تقاطعت مع غضب شديد لكلمة متلفزة طالب فيها وزير التربية اللجان النيابيّة المشتركة بإنصاف الاساتذة الثانويّين، «لأنّهم أيضاً «معتّرون» مثل بقيّة موظفي الدولة المدنيين والعسكريين». وارتسمت على ملامح الوزير تعابير شفقة وبؤس، فبدا وكأنّه يطالب لـ«متسوّلين» «بإكراميات» بمكرمات من «صناديق الصدقة».

الملاحظة الأولى الممكن إيرادها بعجالة، تتعلّق بتجاهل روابط المعلّمين والإداريين والجيش وقوى الأمن لهذه الإهانة، يطلقها وزير يمارس السياسة منذ أربعين عاماً. أمّا الثانية فهي تغاضي الأساتذة الثانويين أيضاً عن إهانة الوزير واستيعابهم لها بصدر رحب خشية أن يتعرّضوا لغضب معاليه، فلا يطالون بعدها لا «عنب الشام» ولا «بلح اليمن».

لمناقشة هذه الإشكالية، لا بدّ من إلقاء الضوء على الفارق بين المفاهيم القديمة والحديثة للسلطة، وذلك لتحديد الموقع الذي ينطلق منه الوزير في تحديد العلاقة بين الدولة والموظّفين في مؤسساتها.

إنّ مفهوم الدولة القديم يستند إلى أنّ الحاكم يمتلك الأرض بما عليها من بشر وحجر وهواء وماء، فيعطي من يشاء ويمنع المال عن الذين لا يرضى عنهم. ولا يزال هذا المفهوم سائداً في الأنظمة التوتاليتارية في دول الخليج والمغرب والأردن، وقابلاً للتطبيق في جمهوريات عربية مختلفة. هؤلاء يمارسون دور السيد الإقطاعي الذي يتعامل مع الناس وكأنّهم «مرابعون بالسخرة». لكنّ المفهوم الحديث للدولة يعتبر أنّ الناس أصل السلطات وأصحاب المال العام، ينتخبون إدارة لتنظيم شؤون البلاد والدفاع عنها وتوزيع المال… وهذا مبدأ عالمي تمارسه حتى الملكيات الأوروبية.

لكن للعالم العربي خصوصيّاته، فهو الجزء الوحيد من العالم الذي يستطيع المرء فيه أن يكون إقطاعياً يقود الناس بالسوط والكرباج والدكتاتورية وأساليب الإغواء والفتنة، وأن ينتحل صفة اشتراكي وتقدّمي وأممي وسعودي وأميركي في آن معاً. لذلك، يشكّل لبنان جزءاً من هذا العالم العربي، لكن طبقته السياسية «المتضامنة جداً»، وعلى عكس ما تدّعيه من وجود خلافات بين فئاتها.. هذه الطبقة استطاعت أن تقنع المراقبين الداخليين والخارجيين أنّها منتخبة وديمقراطية وبرلمانية مع تداول شديد مزعوم للسلطات ونزاهة منقطعة النظير تؤكّدها «الديون العامّة» الهائلة.

هذه الواجهة «الديمقراطية» لمضمون زائف ليست إلّا ستاراً لمفهوم سلطوي قديم يعتقد أنّ المال العام هو للسلطان الطوائفي، يوزّعه كيفما أراد. لكنّه يمارس بالحيلة والمراوغة والطائفية شكلاً حديثاً في التعاطي مع الناس يقوم على مبدأين اثنين: توزيع قسم من المال العام للسيطرة على الناس، واستعمال الطائفية وسيلة للقضاء على اعتراضهم، مقابل أن تتقاسم فئات هذه الطبقة ما تبقّى من المال العام حسب أوزانها وأدوارها الإقليمية وأحجامها الداخلية.

وبالاستنتاج، يتّضح من خلال المقارنة بين هذه المفاهيم اعتبار كلمة الوزير المتلفزة بأنّها جزء من لغة «القرون الوسطى»، يلقيها سياسي يحاول أن يتسربل بلبوس القرن الحادي والعشرين، وهذا طبيعي في البيئة السياسيّة اللبنانية التي تعلن شيئاً وتمارس نقيضه في الوقت نفسه دونما حرج أو مهابة. فالرأي العام مغيّب في عباءات المذهبية والطائفية. فعندما ينسحب هذا الوزير من جلسة اللجان النيابية المشتركة بذريعة أنّها لم تقرّر إعطاء الأساتذة الثانويّين علامات استثنائية، فهذا عمل جيد… لكنّه ذهب سريعاً إلى القرون الوسطى عندما استخدم المخبوء من ثقافته التاريخية، داعياً اللجان إلى العودة عن قرارها ومطالباً الأساتذة بعدم اللجوء إلى الإضراب حرصاً على العام الدراسي، وهو بذلك يعتبر المال العام ملكاً للّجان المشتركة التي تمثّل السلطة، أيّ وليّ الأمر والسلطان الأعظم. فيما يفترض أن تكون هذه اللجان الأداة التي توائم بين المال العام وحقوق الناس والموظفين بالعدل والنزاهة، فتعطيهم حقوقهم وليس مجرّد «مكرمات خليجية» باعتبار أنّها مؤتمنة على إعادة توزيعه بما يؤدّي إلى الازدهار الوطني بمستوياته الاجتماعية والمادية والعسكرية.

ولا ينتظر الموظفون «مكرمات» القرون الوسطى، بل يترقّبون «حقوقاً» لهم لا يحق للسلطات ابتلاعها بذرائع واهية، لكن ما يجري هو عكس ذلك تماماً… هناك تحكّم كامل بالمال العام، وصولاً إلى حدود ابتلاعه، والحجّة جاهزة وهي تسديد الديون التي ابتلعتها السلطة نفسها في مراحل سابقة شريكة المصارف في السطو على حقوق الناس. وهي حقوق يفترض أن تعادل الارتفاع السنوي للأسعار ومعدّل التضخّم، ربطاً بالتطور الزمني في مستوى خدمة الموظفين التي تعادل درجة إضافية كلّ سنتين.

هذه هي الأسباب التي تتيح رفض تهرّب الدولة، أيّها الوزير، من دفع حقوق موظّفيها مع كرامتهم، ولا سيّما أنّ هؤلاء «المعتّرين» لم يتحصّلوا على زيادات أجور فعلية منذ عقد تقريباً، وينالها كلّ سنة عشرات ملايين الموظفين في معظم بقاع الأرض. لكنّ القمع الطائفي الذي يربط الموظف بـ«الإقطاعي الشديد التديّن»، وإلغاء أدوار النقابات والأحزاب والإعلام، أعطى الدولة إمكانات كبيرة في تنفيس الاحتقانات الاجتماعية، فتحوّلت الزيادات القانونية إلى «مكرمات» على الطريقة السعودية يتوسّل الوزير حمادة دولته لمنحها لـ«المعتّرين».

لا بدّ هنا من الإشارة إلى نقاط عدّة: إنّ أستاذ التعليم الثانوي الواحد يحمل إجازة علمية ليست مزوّرة ولا فخريّة، ويتحلّى بالحميد من الأخلاق مزوّداً بها أجيالاً تؤسّس بنية علمية للبلاد. هؤلاء جُمّدت رواتبهم على الرغم من الغلاء الذي استشرى، وفلتان الأسعار والتضخّم. في المقابل، هناك مجلس نيابي لا يتمتّع نوّابه بالإمكانات العلمية الملائمة، ومعظمهم لا علاقة له بالتشريع. هؤلاء أقرّوا منذ أقلّ من شهر قانوناً يبيح لزوجاتهم وأولادهم نيل كامل رواتبهم بعد وفاتهم، على عكس ما تناله عائلات موظّفي القطاعين العام والخاص كافة.

وكان النوّاب رفعوا رواتبهم قبل مدّة إلى مستوى خيالي في لبنان «المعتّر» بهم فعلاً. فمن أكثر حقاً بالزيادة: «المعتّرون» أم النوّاب الذين يملكون ثروات استحصلوا عليها من عالم النبوغ في «التشريع» وأمكنة أخرى؟!

وهل النوّاب والوزراء موظّفون؟ أم أنّهم يؤدّون دوراً محدوداً في الزمان ينالون عليه مكافآت مؤقتة كحال أقرانهم في الدول الأخرى؟

هناك ملاحظات ثانية برسم أساتذة التعليم الثانوي الذين انقلبوا على قيادة نقابية تاريخية كانت في طريقها لتشكيل قوة نقابية وطنية تدافع عن القطاعين العام والخاص. الأمر الذي أزعج كونفدرالية الطوائف «مجتمعة»، فتحالفت وأقصت هذا الخط النزيه بواسطة الأساتذة المنتمين إليها، والذين آثروا الالتزام بالقوى الطائفية ونصّبوا قيادة نقابية تمثّل كونفدرالية المذاهب أصبحت بالضرورة مأمورة من السلطة. فلماذا لا يضغط هذا «الخط النقابي» على أحزابه الطائفية التي تمثّله كي توافق على الزيادات للأساتذة؟ ولماذا لا يشكّل الأساتذة جزءاً من اهتمامات أحزابهم؟

يكشف هذا الأمر أنّ آخر اهتمامات السلطة الطائفية هي مسألة نشر التعليم المدني، لأنّهم يفضّلون عليه التعليم الديني المنضبط بفنون الانصياع للسلاطين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى