هيلاريون كبوجي… مطران القدس الذي سكنته فلسطين: لا خلاص إلا بالفكر السوري… وما أشدّ حاجتنا إلى أنطون سعاده
جودي يعقوب
هو مطران القدس المنفيّ الذي سكنته فلسطين إلى ما لا نهاية، كان يقول: «ابتعادي عن فلسطين كان هو الموت المعنوي، أنا بعيد بجسدي إنما فكري وقلبي ودعائي دائماً مع فلسطين، لأنني ما زلت أعيش في فلسطين»، وهو الذي أتى إلى بساتين ليمونها معطّراً بعبق الشام التي أحزنه ما أصابها مع بدء الأزمة فيها. وبقدر تعلّقه بفلسطين وقدسها كان المؤمن دوماً بانتصارها على محنتها، كيف تنتصر؟ بالفكر السوري الذي يجسّد الخلاص، إذ أشار المطران كبوجي عقب مشاركته في مؤتمر «مونترو» الذي عقد في سويسرا تمهيداً لمحادثات جنيف 2 آنذاك، مؤكداً الحاجة إلى الزعيم أنطون سعاده بيننا في هذه الأزمة. لكنه يرى أنّ سعاده موجود بيننا من خلال القوميين الاجتماعيين الذين سيرتقون بسورية.
وفي الحديث عن مؤتمر «مونترو» الذي شاركت فيه وفود من 47 دولة، لا بدّ من ذكر واقعة نادرة الحصول في الاجتماعات الدولية. فالمؤتمر عقد في قاعة كبيرة، وتمّ تخصيص تسعة مقاعد لكلّ وفد، وسط إجراءات تنظيمية وأمنية مشدّدة فرضتها أجهزة الأمن السويسرية، بالتنسيق مع أجهزة أمن الدول المشاركة، وكان على كلّ مشارك أن يكون حاصلاً على بطاقة تعريف ممغنطة، تخوّله الدخول، وهذا ما لم يسرِ على المطران كبوجي إذ دخل القاعة من دون الحاجة إلى البطاقة التعريفية.
بعد أن أغلقت الأبواب وجلس أعضاء الوفود في أماكنهم استعداداً لبدء أعمال المؤتمر، فوجئ المشاركون بأن فُتح الباب الرئيس، إذ إنّ المطران كبوجي وصل متأخراً بعض الوقت، فدخل القاعة مرتدياً رداءه الكهنوتي وفي يده الصولجان، وتوجّه مباشرة إلى المقاعد المخصّصة لوفد الدولة السورية، فتمّ وضع كرسيّ عاشر له.
أذكر هذه الواقعة، لأنها ذات معنى ومغزى، فهو بالتأكيد لا يحتاج إلى بطاقة تعريف لحضور مؤتمر حول سورية، وشخصية بوزنه ومواقفه لا توصد في وجهها الأبواب، لكنّه أراد أن يقول إنه حضر المؤتمر وجلس على مقاعد وفد الدولة السورية، ليوصل رسالة إلى العالم مفادها أن سورية رئيساً وقيادة وجيشاً وشعباً متّحدة ضدّ الارهاب والتطرّف.
وأذكر أنه حين سألت المطران الراحل عن إمكانية إجراء مقابلة صحافية معه لـ«البناء»، أجابني بتواضعه المعهود : «لا أريد أن أتعبكِ يا ابنتي، أنا بنفسي قادم إليك»، فهو كان يزورني بنفسه في مقر إقامتي في روما، وكنت في كل مرة استقبله فيها أشعر بهيبة هذا الرمز الكبير ورهبته، فهو عملاق من عمالقة النضال، ومدرسة من مدارس الثورة والعطاء، وكان كلّما جئت من دمشق إلى روما تدمع عيناه ويعانقني ويقول لي: «دعيني أشمّ رائحة الشام منك»، وتلك الدموع التي طالما سالت على وجنتيه كانت تعبّر عن حبّه لوطنه وحزنه عليه. وكنت أقول له دائماً: «أرجوك دعني أشمّ منك رائحة القدس».
وبالفعل، زارني وأجريت معه المقابلة، وقد نشرت في حينه في «البناء»، ويومها أهديته شال الزوبعة علم الحزب السوري القومي الاجتماعي فضمّه إلى قلبه ووضعه حول عنقه وقال لي: «يا ابنتي، إنّ حل الأزمة السورية يكمن بالفكر السوري القومي، فكم كنّا بحاجة إلى الزعيم أنطون سعاده بيننا في هذه الأزمة، لكن البركة بكم، أنتم القوميين، لترتقوا بسورية».
لم تستطع السنون والمسافات أن تنزع سورية من قلب المطران الراحل هيلاريون كبوجي ووجدانه، فكان يقول: «أنا منفيّ، لكنني بضميري وبقلبي أعيش مع سورية، ولا بدّ لهذا الليل أن ينجلي ولا بدّ لهذا القيد أن ينكسر، فأنا بعيد عن سورية جسماً لأنني منفيّ، منذ 35 سنة، ولكنني عندما أسأل عن حسبي ونسبي، مرفوع الرأس وبفخار أجيب أنا مواطن سوري، والمواطنة إذا بقيت مجرد عاطفة ولم تتجسّد بالأفعال هي كذب ونفاق وتمثيل، ومحبة الوطن هي بذل وعطاء وفداء، ولما كانت الشام هي قلب المقاومة، لذا أحبّها بعد حبّي لله، ولذا فإن بقاءها هو ضمان لبقاء أمتنا مكرّمة وعزيزة ومستقلة، لأنها تجسّد أمتنا».
كان المطران كبوجي على يقين أن هناك حرباً كونية شنّها العالم على سورية، ولم يعد خفياً على أحد أن هناك مؤامرة على أمتنا، من أجل تفتيتها وتمرير المؤامرة الأميركية ـ «الإسرائيلية» تحت مسمّى «الشرق الأوسط الجديد». وعن سبب استهداف سورية كان يشير إلى أنّ تخريب الشام وتجزئتها وإضعافها، كل ذلك لأنها تشكل العمود الفقري وحجر الزاوية لأمتنا، فكانت هذه الحرب الكونية عليها حتى يهدموها وحتى يمرّروا عبرها المؤامرة المحاكة من قبل أميركا و«إسرائيل»، ما يعني تحويل أمتنا الحرّة السيدة المستقلة إلى دويلات هزيلة مستعمَرة يستولون عليها ويتحكّمون بها ويستغلون ثرواتها.
الصلاة لسورية ولعودة السلام إلى ربوعها كانت حاضرة دوماً في حياة المطران كبوجي. وكان يشير إلى ذلك قائلاً: «ليلاً ونهاراً أسأل الربّ أن يقصّر هذه الأيام المأسوية التي نعيشها، لنعيد سورية، لا كما كانت، بل أحسن مما كانت عليه في كل مجال وعلى كل صعيد. وسورية حتماً بثوابتها القومية الراسخة، وبصمود شعبها وببسالة جيشها، وبقيادتها الحكيمة ستنتصر وسنصل إلى دمشق المنتصرة».
بما لا يدع مجالاً للشكّ، كان المطران كبوجي يشير إلى أنه لا يجوز للرئيس الأسد أن يقدّم استقالته، لأن هذا هو الاستسلام بعينه، باعتبار أنه رمز وهو ابن أبيه.
مطران القدس المنفيّ كان يؤكد أنه علينا أن نعمل لوضع حدّ لهذه المأساة التي لم ترَها عين ولم تسمع بها أذن، والتي لم تخطر ببال بشر، ثم نسعى من بعدها إلى بناء البشر قبل أن نفكر ببناء الحجر، «رغم إيماني بأن لا أحد من السوريين له ضلع في أيّ عمل إجرامي، كل هؤلاء قادمون من الخارج، ومستوردون لكسب المال أو لأنهم تكفيريون فقط».
الجياع واليتامى والأرامل والمهجّرون الذين يعيشون في العراء، كانوا حاضرين في عقل المطران كبوجي وفكره، ما دفعه إلى المساهمة جيداً مع أبناء الجالية السورية في إيطاليا بإرسال عشر سيارات إسعاف إلى سورية، لأن هناك المئات من الجرحى الذين يموتون في الأرض وهم ينزفون ولا يوجد من يقوم بإسعافهم، ولأنه أيضاً وفي بعض المناطق لا توجد سيارة إسعاف، وهذه ستكون خدمة لسورية لنجسد محبتنا لها.
لم يُخفِ المطران كبوجي خوفه من أن تصبح سورية منسيّة كفلسطين التي ضاعت من خلال جولات الحوار، لافتاً إلى أنّ المطالبة بإقامة دولة فلسطينية باتت تقتصر على 22 في المئة فقط من مساحتها، ويلفت إلى أن إعطاء هيئة الأمم المتحدة صفة الدولة لفلسطين لا يقدّم ولا يؤخّر، لأن على الأرض الواقع لا يمكن إقامة هذه الدولة، لأنه لقيام دولة يجب أن تكون هناك أرض، والآن لم تبقَ هناك أرض، لأنها باتت أرضاً لبناء مستوطنات «الدولة اليهودية».
كذلك كان المطران كبوجي يبدي قلقه على المسيحيين، حيث أصبح عددهم يقل تدريجياً في كل مكان وأصبح يتقلص في العالم العربي، وخصوصاً في فلسطين. ويقول: «عندما كنت مطراناً في فلسطين عام 1965 كانت نسبة عددنا نحن المسيحيين هناك 22 في المئة، أما اليوم فأصبحنا فقط 1 في المئة يعني أصبحنا من ثمانية ملايين فقط 150 ألف مسيحي». وكان المطران كبوجي يسأل: «ما قيمة المقدسات بعد ذهاب المسيحيين ورحيلهم، وبعد فراغ فلسطين والقدس من المسيحيين؟ لأن الذي يجعل المكان مقدّساً هو دخول المؤمن إلى الكنيسة، هو الذي يعطي هذا المكان الصبغة المقدّسة. وغياب المسيحيين معناه أنّ هذه الأماكن المقدسة تصبح مومياء، تصبح حجراً من دون قيمة، ونحن الآن من سيّئ إلى أسوأ في فلسطين، وخصوصاً وضع المسيحيين المأسوي ـ 150 ألف مسيحي على ثمانية ملايين، يجب أن نظهر للعالم وأن نبيّن لهم أننا نحن المسيحيين، فعلاً نحن مسيحيون، ولكن ليس فقط بالاسم بل مسيحيون بالحياة وبالتصرف وبوطنيتنا، فأسلافنا كانوا شهداء دافعوا عن إيمانهم، ودافعوا عن وجودهم، وكذلك يجب أن نكون نحن أيضاً».
المطران الراحل جسداً والباقي فكراً وإيماناً بفلسطين وقضيتها، كان يؤكد دوماً أنه يجب أن نعمل ونرفق عملنا بالصلاة. «وأنا هنا في غربتي هذه هي مهمتي، الصلاة ثم الصلاة ثم الصلاة. وهذا لا يعني أننا لا نعمل فإننا نقوم أيضاً بتظاهرات وندوات، ولكننا أيضاً نصلي». وأكد أنّ البابا أكثر من مرّة لا يذكر بصلواته إلا سورية، لا يذكر أيّ بلد آخر إلا سورية، ويقول سورية العزيزة.