عنصرية المدن الثقافية الهشّة

جهاد أيوب

من نغمات العنصرية الأعرابية الحالية أن بعض المثقفين يفتخرون بأن عاصمتهم هي المختارة للشعر، وهي مفاتيح القصيدة العربية والثقافة المعاصرة، وآخر يتغنّى بأن عاصمته كانت لها الريادة ولا تزال في صناعة الفكر الأدبي في المنطقة. مفردات شوفانية، وعنصرية لا توصف، ولا أمثلة لها في الحضارة عبر العصور مهما تشدّق صاحبها باختراع الكذبة. وها نحن نشاهد كل يوم تزايد التخلّف عند غالبية المثقفين العرب وهجرانهم قضايا «الأمة»، والانبطاح أمام الدولار ليصبحوا لسان الكذب والدجل والخيانة، وتشويه الحقائق. والأغرب أنّهم يخترعون الكذبة ويصدّقونها.

كلما أشرقت الشمس على الجسم الأعرابي تتفتح زهور «الدواعش»، وتجد عدداً من مؤيّديها في صفوف المثقفين، لا بل هذا المثقف أوجد تبريرات للعمالة والخيانة بحجة حبّ الحياة، ومع ذلك يصرّ أن عاصمته هي التي اخترعت الشعر والرواية والقصة وما شابه من ثقافة ضيقة الأفق.

لا ثقافة تأسيسية من دون حرّية مسؤولة. لا نهضة فكرية من دون الاستقرار سياسياً واقتصادياً، وهذا ينعكس على الواقع الاجتماعي الذي بدوره يقف مع التجربة الفكرية والتي تولد الحضور الثقافي بمختلف أنواعه.

لا يوجد «أنا الشعب المختار بالشعر والثقافة»، ومن يسير خلف هذه المعادلة إما يدفع من قبل مشاريع صهيونية ليزيد من تقسيم شعوبنا وبلادنا، أو سياسة خبيثة مدعومة من الاعداء لهدم ما تبقى من التواصل الإنساني والروحي وربما الفكري، وجعل الغرور المناطقي أسهل الطرق لتهديم مجتمعاتنا وثقافتنا وبلادنا.

صحيح أن لبنان خاض غمار الحروب منذ فجره، ومناطقة الداخلية غمرها طوفان الحروب العبثية، وحدوده في صراع مع عدو لا يؤمن بغير الدم، وهذا ولّد البحث عن التمسك بالأرض، ونشر الراية من خلال حركة الفكر والفنّ والشعر، لكن لبنان ليس كل الشعر، ولا كل الثقافة رغم مساحة الحرية الموجودة فيه، ورغم تنوع ثقافاته وطروحاته الاشكالية الحاضرة والرائدة في الفكر المعاصر.

والعراق شهد الظلم عبر الزمن، وأغرق بدماء الحرمان، وتنقل من مرحلة إلى أسوأ، والفوضى عمّت تاريخه وترابه، وهذا أعطى العراق خصوصية في كيفية طرح الوجع عبر القصيدة بشكل خاص، لكن العراق ليس كل الشعر والثقافة، وإذا فكرنا عكس ذلك نكون القحط الفكري الذي يوصل إلى التحجر، وإلى مزيد من التخلف.

ومصر كانت ولا تزال مترنّحة بين الاستقرار واللااستقرار، بين الفقر والحرمان القاتل والمخيف وبين الترف الجامح، وتاريخها شهد الاستقرار أكثر من دول عربية آخرى، ولكن طمع الغرب جعلها تنزف باستمرار، وهذا ولّد مغامرات فنية وأدبية منوّعة، ولكن مصر ليست كل الشعر، وليست كل الثقافة والفنّ، وإذا رفضنا الحقيقة، وعشنا كذبة الريادة فالواقع أكبر مجيب لتدهور كل الثقافة والفنون فيها، وتشبه واقع كل العرب.

وكذلك حال الجزائر، وتونس، واليمن، وسورية، والكويت، والسعودية، وليبيا. والسبب بكل بساطة يعود إلى أكثر من أمر، ومنها أن الثقافة العربية فردية وليست مؤسساتية، ولمجرّد رحيل المؤسس الفردي في مجال ما يقف الابداع العربي عند الراحل، ويتجمد الفكر دون الولادة، ونعيش التطرف والتعصب للراحل من دون العمل على مساعدة الأحياء، وكل جهود الشباب تقارن بالماضي الذي نعيشه على حساب المستقبل المهجور.

كما أن عدم دقة الموقف النقدي في ثقافتنا، وسجنه في العاطفة أفقر ثقافتنا، وجعلها تضيق، لتتضخم المناطقية الفارغة على حساب الثقافة الشاملة.

حتى البرهة المفكر العربي لا يؤمن بالعقل، وبأن هذا الاخير فيه علم وفلسفة، لماذا؟

ن العامل الديني المتطرّف هو ما يتمسك بالثقافة العربية، وإذا رفض المثقف العربي هذا التطرّف يذهب إلى تطرّف بديل مضاد للأول من دون إيجابيات، لذلك لا عجب إذا اعترفنا بأن لا خصوصية في الشعر العربي اليوم، ولم نعد نجد البحث الثقافي العربي الشامل في هذا الزمن الانقلابي الرافض لكل الواقع من دون تقديم البديل، وأن غالبية المفكرين العرب لا يؤمنون بأن الثقافة مفتوحة، ومختلفة عن السابق مع أن الوجع هنا يشبه الوجع هناك، والقصيدة هنا مشابهة للقصيدة العربية هناك، أقصد أيامنا المعاصرة ثرية أكثر رغم ركودها، وليس نتاجاً لعباقرية الامس، وعباقرة الامس نجهلهم ويجهلهم من يعمل في الشعر والادب والفن اليوم.

نعم، اليوم لا تجديد في الشعر العربي، لأن وببساطة الشعر العربي لم يعد قاموس العرب وديوانه.

القاموس العربي أو ديوان العرب أكثر تبعثراً، وتشتّتاً، وضياعاً، لذلك المنافسة معدومة، والشوفانية ملغومة، والجدلية البيزنطية حاضرة في كل برامجنا وثقافتنا وفنوننا لكونها نابعة من إعلامنا الساذج والباحث عن فريسة حتى لو كانت على حساب أرواح الثقافة.

لا ينقذ «الثقافة العربية» إلا الاعتراف بحقيقة واقع «الثقافة العربية»، ولا ينقذ ثقافة وطن إلا الاعتراف بأن الانفتاح، والتواصل مع الثقافات الآخرى هو الداعم، والمنشّط والمستفزّ لولادة قصيدة، أغنية، رواية، قصة جديدة لها خصوصية في مستقبل «الثقافة العربية الشاملة»، وليس في كذبة الثقافة الضيقة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى