أردوغان يعبّئ ضدّ الغرب من أجل الفوز بالاستفتاء…

د. هدى رزق

اتّسم الصراخ الانتخابي بين تركيا وبعض بلدان الاتحاد الأوروبي بالحدّة الكلامية والعدائية المطلقة في ظلّ أجواء انتخابية وقودها الأساسي الهجرة واللاجئين والإسلاموفوبيا وقاعدتها الازمة الاقتصادية التي تعصف بدول الاتحاد. يحاول اليمين المتطرف في الغرب الاستفادة من النقمة الشعبية بعد عملية السماح التركية للاجئين في صيف 2015 بالعبور الى الدول الأوروبية وعدم العمل على ردع مافيات التهريب، زيادة على السياسة التي اتبعها أردوغان في هذا الشأن والتي اعتبرت ابتزازاً خضعت له المانيا وحاولت تنظيمه بإعطاء تركيا حوافز أثارت الرأي العام الأوروبي.

أما تركيا فهي تعيش كذلك أجواء الاستفتاء على تعديل الدستور الذي سيتمّ في 16 نيسان، وهو مشروع أردوغان السياسي لوضع يده على السلطة كلها، وتتويج انتصاراته الانتخابية والشعبية عبر تغيير وجه تركيا العلمانية الأتاتوركية. تتساوى أصوات الأتراك في هذا الاستفتاء 40 من الأتراك مؤيدة للتعديل اما الـ 40 الأخرى فهي ضدّه. حمل هذا الأمر إضافة الى عدم وضوح موقف الـ20 الباقية أردوغان الى محاولة جذب أصوات الجالية التركية التي تعيش في أوروبا.

لكنه فوجئ بقرار دول الاتحاد التي تخوض هي أيضاً انتخابات صعبة رفض الترويج الانتخابي الأردوغاني على أراضيها، بحجة مراعاة قوانينها واعتبار المهاجرين الذين يحملون جنسية البلد الذي يقيمون فيه خاضعين للقانون الأوروبي وليس التركي، وأن الترويج للدستور يتمّ على الأرض التركية وليس الأراضي الأوروبية.

طلب كل من هولند وميركل من أردوغان احترام قوانينهم. جاء هذا الطلب بعد أن رفضت هولندا زيارة وزير الخارجية التركية أراضيها من أجل لقاء الجالية التركية لأغراض انتخابية، وطردت وزيرة الاسرة التركية التي دخلت الأراضي الهولندية من الحدود الالمانية برغم المنع.

خاض كلّ من أردوغان وحكومته معركة حقيقية وصم خلالها كلّاً من المانيا والنمسا وهولندا والسويد بالعنصرية والنازية والفاشية. شكلت هذه الحادثة ذريعة للتعبئة في الداخل ضد رافضي التعديل الدستور واعتبارهم خونة يعملون لدى الغرب. حاولت الحكومة التركية الاستفادة من هذا المنع من أجل كسب مزيد من التأييد في الداخل.

يرى المراقبون للعلاقات التركية الأوروبية أن المستشارة الالمانية انجيلا ميركل كانت قد سمحت في الماضي لتركيا إجراء مهرجانات انتخابية على أراضيها. فهل ما يدور هو فقط بروفات لحملات انتخابية ام يعكس موقفاً سياسياً أوروبياً.

كانت نتيجة الانتخابات الهولندية مفاجئة لتركيا مع إعادة انتخاب «روته» رئيس الوزراء الحالي الذي أخذ قرار الرفض وهو بذلك استفاد من هذه الأزمة، بعد أن كان خصمه اليميني المتطرف يحظى بتأييد وشعبية كبيرة.

يمكن أن يرى البعض في ما يحدث صراعاً حضارياً بين تركيا والغرب، لكنه في الحقيقة صراع افتعلته تركيا من أجل استثماره باعتباره موجهاً الى كل المسلمين والذهاب الى التطرف من أجل الفوز في الاستفتاء على الدستور. السياسة الشعبوية التي اتبعها أردوغان أثبتت نجاحها في تركيا وهي تسعى في الوقت عينه الى الترويج لليمين المتطرف في أوروبا، لكي تجد شرعية لحكم تركيا وحصر السلطات بيد الرئيس.

الخلافات بين الغرب وأردوغان، وليس تركيا، مستعرة منذ 2013 والتقارير الأوروبية المتتالية منذ ذلك الوقت عن الوضع الداخلي التركي تثير غضب أردوغان، فهذه التقارير لطالما دوّنت انتكاسات خطيرة على حرية التعبير، وتقويض هيبة القضاء، وانتقدت الاتجاه السلبي للسلطة الحاكمة التي لا تحترم سيادة القانون والحقوق الأساسية. كذلك أضاءت على القضايا الجنائية ضد الصحافيين والكتّاب، وضد تخويف وسائل الإعلام وإدخال تغييرات على قانون الإنترنت وشجبت المسّ باستقلالية القضاء ومبدأ فصل السلطات وأدانت وضع القضاة والمحامين تحت ضغوط سياسية قوية. لكن الحكومة التركية تحولت بشكل مطرد الى استبدادية بعد ان انهارت عملية السلام مع الأكراد في صيف 2015 وأضحت مناطق في جنوب شرق البلاد تحت الأنقاض. كما جرى وضع اليد على بنوك وشركات خاصة تابعة لجماعة غولن قبل الانقلاب في 2016.

لماذا أصبح أردوغان غير مرغوب فيه وفي أنصاره، فهو عندما جاء الى السلطة في عام 2002 وعلى الرغم من جذوره الإسلامية، شرع بالعمل على جعل تركيا عضواً كاملاً في الاتحاد الأوروبي، وكان يقوم بزيارات متكررة إلى العواصم الغربية ويستقبل استقبال الأصدقاء. فحزب العدالة والتنمية الذي تبنى الاسلام المعتدل والمفاهيم الغربية كالديمقراطية الليبرالية نوقش في حلقات ومنتديات ووسائل إعلام غربية ونال استحساناً كبيراً. تخلّى هذا الحزب عن العداء للغرب الذي اتصف به بعض الإسلاميين من قبل.

ربما كانت هي الوسيلة الوحيدة الآنية التي استعملها أردوغان للنجاة من غضب المؤسسةالعسكرية التي مارست علمانية متشدّدة وكانت ظالمة بحق الإسلاميين، واطاحت بأسلافه الذين كانت لهم رؤيا مختلفة لتركيا. انتهى التقرب من الغرب عملياً في 2010، بعد ان ضرب أردوغان المؤسسة العلمانية واستولى على السلطة. فالديمقراطية اصبحت بالنسبة اليه صندوق اقتراع، لذلك بدأ باتخاذ إجراءات صارمة ضد حرية التعبير، وبدأت الفجوة مع الغرب بالاتساع اعتباراً من عام 2013 حيث بات يؤمن بوجود مؤامرة غربية للإطاحة به، أجاب عليها بمناهضة الغرب. كانت التقارير والتحاليل الغربية تعتبر أردوغان زعيماً نموذجاً للشرق الأوسط، أصبح اليوم مصدراً وحيداً لجميع المشاكل في تركيا التي تتجه نحو الشخصنة في السلطة. فالغرب يستشعر أنه بعد أن ساعد حزب العدالة والتنمية على كسر شوكة الجيش من أجل إعطاء السلطة للمدنيين وفتح أقنية الحوار في البلاد مع الاثنيات والمذاهب خدع من قبل أردوغان لأن تركيا أضحت سجناً كبيراً للصحافيين ولحرية الرأي. فعدد الدعاوى التي تقدم بها رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان الى القضاء ضد من اعتبر أنهم قاموا بتحقيره بلغ 1845 دعوى وبين هؤلاء نواب وزعماء سياسيون ومنهم الصحافيون والمواطنون العاديون وقاد ضد بعضهم اتهامات بالتجسس وخيانة الوطن. لقد خرج أردوغان عن كل مبادئ كوبنهاغن الأوروبية التي استعملها من أجل الوصول الى السلطة.

تبدو الأيام التي كان فيها الإعلام الغربي يكيل فيها الثناء على «النموذج التركي» اي العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان بعيدة جداً، حين ابتدعت تركيا نموذجاً ناجحاً، بالنسبة للغرب لدول ذات غالبية مسلمة وزاوجت بين الديمقراطية، ورأسمالية السوق الحرة.

لا يشبه حزب العدالة والتنمية ما كان عليه بالأمس، أي في العام 2000، فالآباء المؤسسون المخلصون لأفكار الحزب عند تأسيسه لا زالوا مع الديمقراطية والليبرالية مثل الرئيس السابق عبد الله جول ووزير الاقتصاد علي باباجان وأسماء أخرى جرى تهميشها، لكنهم يستشعرون خطراً ولا يجرؤون على المعارضة فهم في عين العاصفة. اما أردوغان فهو بنى تحالفاً جديداً من القوميين المتشددين الذي يهدف من خلالهم إلى بناء تركيا المستقلة الجديدة. يستعير أردوغان النظرة القومية وهي وجهة نظر نجم الدين اربكان «مللي غوروش» التي تعبر عن فكرة الإسلاميين في تركيا التي استندت الى الفكرة الاسلامية العثمانية التي ترى أن تركيا ليست موالية للغرب.

عبر هذه العقيدة يعبئ أردوغان الجمهور، ويحاول إظهار الغرب ليس فقط كعدو للإسلام إنما نقيضه عملياً، فالمسلمون إخلاقيون وصادقون، في حين أن الغرب فاسد، ومنافق وهو يستند في عدائه للاتحاد الأوروبي على تأخر هذه الدول بعد الانقلاب بالاتصال به وتهنئته، واعتبر أن موقفها يعبّر عن تواطؤ مع الانقلابيين، واعتبر لجوء ضباط كبار من الجيش التركي العامل في مراكز الناتو الى المانيا وإعراضها عن تسليمهم الى الدولة التركية بمثابة تواطؤ ضده.. هذه الأفكار التي تطرح ضد الغرب تشبه ما وصم به المستشرقون المسلمين في القرون الغابرة. وهو خطاب شبية بخطاب بعض الغربيين الذين لديهم رهاب الإسلام أي الإسلاموفوبيا، يختزن هذا الصراخ مصالح شخصية، لكن في ظل هذه الشعبوية والتوتر والانقسامات الاجتماعية، أصبح الحديث عن مغادرة تركيا شائع لدى كثير من المواطنين المتعلمين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى