النبت الصالح 1949 ـ ثروة الزعيم وأملاكه 7
اياد موصللي
في وصية الزعيم ترك أربعمئة ليرة لبنانية كانت معه، خلال كتابته لوصيته قبل استشهاده.
من يقرأ هذا المقطع يقف مشدوها غير مصدّق، معقول زعيم حزب كبير ليس في جيبه مما يملك سوى أربعمئة لير ة! وهو الذي لو طلب الدماء والأرواح لقدّمت له، أربعمئة ليرة! معقول هذا الكلام الذي لا يصدّق، ولكن من يعرف سعاده والحزب الذي كانت شرايين حياته هي شرايينه من نبع إمكانياته الضئيلة التي لا تصبّ فيها اية روافد أو أنابيب.
سعاده عاش فقيراً، زعيم لحزب فقير كلّ موارده هي اشتراكات الأعضاء وتبرّعات بعض المتمكّنين منهم وما أقلهم. وإذا عدنا إلى مذكرات الأمينة الأولى وقرأنا بعضاً مما روته عن فترة حياتها مع الزعيم عرفنا ما هو الحزب السوري القومي الاجتماعي، وعرفنا من هو أنطون
سعاده، وعرفنا حقاً أنه لم يكن في جيبه يوم استشهاده غير أربعمئة ليرة لا غير.
قالت: عليّ أن أذكر هنا كيف كان يعيش الزعيم وعائلته. عندما تركت الأرجنتين كنت أحمل معي مبلغاً من المال هو ثمن بيع الأثاث وما قدّمه لي شقيقي. وقد دفعت ثمن بطاقات السفر في الباخرة وأبقيت معي ما يكفي مصاريفنا مؤقتاً. ولأنّ المال المتوافر معي كان يمكن أن ينفذ لو سافرت درجة ثانية فقد قرّرت السفر حتى جنوى في درجة ثالثة كي يبقى معي مبلغ احتياطي حين وصولي إلى لبنان. وأثناء مروري بالبرازيل نزلت في سانتوس حيث كان رفقاؤنا بانتظارنا. حيث قدّموا هدايا لي ولبناتي وهدية للزعيم شيك قدره ألف وخمسمائة دولار. هذا المبلغ أوصلته للزعيم، وعندما قرّرنا النزول إلى بيروت طلب الزعيم من المسؤولين البحث عن بيت في رأس بيروت وأعطاهم الشيك فدفعوا إيجار البيت والباقي صرف لعمال المطبعة. وقد تسلم الشيك الرفيق المسؤول وديع الأشقر. وما بقي معي كنت أصرفه على البيت وكان الزعيم يطلب مني في بعض الأحيان أن أعطي ما أستطيع للعمال في المطبعة، وهكذا وجدت بعد حين أنّ المال نفذ كله ولم يبق معي سوى مخمّسات ذهبية هدية شقيقي جورج فصرفتها ونفذت هي أيضاً. وعرضت للبيع ساعتي وخاتمي الذهبي الذي كان هدية رفقائي في ساو باولو، وكانت مدام روضة ترغب في شرائهما. ولكن الرفيق فاضل أنتيبا الذي كان حاضراً اعترض قائلاً: بالأمس صرفت لك مخمسات ذهبية واليوم الساعة والخاتم وبعد هذا ماذا تفعلين؟ عليك أن تحلّي هذه المشكلة نهائياً. فهذا المبلغ لن يكفيك أكثر من شهرين وأنا أرى أنّ على القوميين بحث موضوع معيشة بيت الزعيم طالما أنّ الزعيم لم يخصّص شيئاً لبيته من صندوق الحزب. وهكذا اجتمع بالأعضاء وبحث معهم هذا الموضوع وأعلمني أنه تقرّر دفع اشتراكات قيمتها 150 ليرة شهرياً يقدّمها بعض الرفقاء، وهكذا كان وسألني من أريد أن يكون الجابي فقلت له بأن تكون إحدى رفيقاتي ويصلح أن تكون فايزة أنتيبا فهي على اتصال دائم ببيت الزعيم. واستمرّ الوضع المادي على هذه الحال، ولكن مهما بذلت من جهود واقتصاد وسهر على المصروف فقد كنت أقع تحت عجز ودين عند السمان واللحام إذ كان عليّ أن أطعم أيضاً الحرس الذي كان يحرس بيت الزعيم وهم ثلاثة أشخاص. فعدت إلى الزعيم أخبره أنّ مبلغ 150 ليرة شهرياً لم يكف وقد وقعت في عجز فطلب مني أن اراجع الرفيق زكي ناصيف في هذه القضية، وهذا ما كان فوعدني الرفيق زكي بالإسراع في حلّ هذا المشكل لأنّ الحرس وحده يحتاج إلى أكثر من ذلك.
بعد نزولنا من ضهور الشوير والسكن في بيروت وجدت نفسي حاملاً، ولم يكن هذا الحدث ما يرغبني بالاستمرار إذ كنت أدرك الوضع السياسي والمتاعب التي تنتظرنا في ذلك الحين، وأكثر ما كان يزعجني في الأمر عدم وجود أيّ أثاث في البيت، فقد استعرنا من المصيف الفرش واللحف حتى يتسنّى لنا شراء غيرها. ولكن بعد أشهر طلب أصحابها استعادتها فبقينا بلا شيء، وكانت صاحبة البيت الذي استأجرناه قد تركت لنا سريرين عتيقين عليهما فراشان فاستعملناهما حتى أتوا لنا بسريرين جديدين مع فراشين. وأنا أذكر هذه الأشياء، أسترجع كلمات الزعيم وتسامي أخلاقه في تلك الأيام العنيفة. كان سريره العتيق منحرفاً على جهة واحدة ويهتز كلما تنفّس الزعيم، وكان الفراش مهلهلاً ولأنه غير صالح تركه أصحابه في البيت، وكنت أنظر إلى الزعيم والألم يحز في نفسي، فبعد السهر الطويل والعمل الشاق يأوي إلى فراش هو بالاسم سرير وفراش، وكان يدرك أنّ الحرامات هي الوحيدة للغطاء في البرد وأنّ فراشي لم يكن سوى فراش المخيمات وممدوداً على الأرض. وكان علينا أن نعطي الحرس أيضاً فنتغطّى بالباقي ونضع ما عندنا من معاطف. وكان في هذا الاشتراك معه في الحرمان من الراحة ما يريح ضميري ويعلّمني إلى أيّ مدى قاسى الزعيم في سبيل قضيته حتى أصبح لا يأبه لكلّ هذا الحرمان. بل ولم يعد يشعر به. وكان يقول لي إنّ من يحمل قضية كبرى كقضيتنا ألا يستطيع أن يحمل هذا الحرمان؟ وهل يشعر به الإنسان؟ لكن الرفيق يوسف تاج لم يقتنع بهذا الكلام عندما رأى الزعيم نائماً على هذا السرير. وخرج من البيت يخبر رفقاءه الذين قاموا بشراء سريرين وفراشين وقد اشتريت أنا فراشين للأولاد من بيت أحد المسافرين. ومن ثمّ بالتدريج إيجاد كراسي وطاولة خشبية ليكتب عليها الزعيم. ثم تسلّمنا من طرابلس مكتب الزعيم القديم ووجبة كراسي صالون. وتحسّن وضع البيت من ناحية الأثاث وصرنا نستقبل الضيوف جالسين.
هذا هو أنطون سعاده زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي مات تاركا أربعماية ليرة لبنانية لزوجته وبناته الثلاث، وعاش يأوي إلى فراش بالاسم انه سرير غطاؤه وعائلته حرامات ومعاطف فرش أشبه بفرش المخيمات.
استشهد سعاده فقيراً كحال جميع الرسل وأصحاب الرسالات… دلوني على داعية حامل قضية أورث غير رسالته ودعوته. جميعهم يموتون أنقياء أتقياء فقراء لا يورثون إلا الفكر والقدوة. وان تركوا ذرية فهي جزء من مجموع المؤمنين لا ميزة في القربى ولا امتيازات يرثونها، وها هن بناته يعشن كما عاشت أمّهن بجهدهن الشخصي، ورثن النقاء والصفاء، فما كان لدى سعاده ما يورثه غير ذلك… ولسن في الحزب غيرهن عن سواهن.. رائع هذا الرسول الداعية القائد ورائعات هن في الخُلقِ الكبير مميزات ولعلّ كونهن بنات الزعيم ورثن مع العفة الغصة والألم المكبوت. كوالدهن ذهب ترافقه حسرة الحرمان من رؤية عائلته وهن ورثن هذه الحسرة والحرمان…
اسمعوا واقرأوا جيداً يا حكام ويا من حكمتم يا أصحاب القصور والعمارات والسرايات، اعلموا انه ليس بالفرش وحده يحيا الانسان.
يصف الأمير فريد شهاب مدير الأمن العام اللبناني الذي روى قصة تسليم الزعيم من السلطات السورية إلى السلطات اللبنانية، يصف القوميين عندما كان سجينا معهم في معسكر الاعتقال ابان الاحتلال الفرنسي قال: «كانوا يعانون بالإضافة إلى «تعتير السجن» من شح المصاري فما كانوا يملكون قرشا واحدا ولا يتسلّمون من الخارج أيّ قرش، فقد كانوا بالفعل مناضلين صامدين منضبطين تحمّلوا الأمرّين، وهذا كان وضعنا ووضع القوميين في جميع السجون».
انطون سعاده ماذا فعلت؟ آه… ما أعظمك.
الأمم الغبية تفعل برجالها كما تفعل الأطفال بلعبها تحطمها ثم تبكي طالبة غيرها.