فائض القوة في رئاسة عون: ما مدى قابليّته للاستثمار الوطني؟

د. وفيق إبراهيم

يمتلك الرئيس ميشال عون مصادر قوّة متنوّعة بإمكانها التأسيس لـ«نصاب وطني» يرث كونفدرالية الطوائف التي تكبح إمكان التطوّر والاندماج الاجتماعيّين، لكنّ المؤشّرات المتسلّلة من المحسوبين عليه تؤكّد أنّ تجربة العماد ذاهبة نحو محاولة استعادة مصادر القوّة التي كان يحظى بها الموارنة من الميثاق والدستور الوطني، وسلب بعض مقوّماتها اتفاق الطائف بضغطٍ سعوديّ سوريّ في 1989.

فما مدى صحّة ما تسرّب من هذه القيادات؟ يجب إجراء قراءة دقيقة لتطوّر قوّة العماد للاستدلال على مفاعيلها واتجاهاتها المرتقبة.

الرئيس ابن المؤسسة العسكرية الوطنية التي دخلها ملازماً وخرج منها زعيماً سياسياً مرهوب الجانب ساقته مواقفه اللاحقة إلى رئاسة الجمهورية. وتميّز في مرحلة قيادته للجيش بنزوع إلى الاستقلالية النسبيّة عن القيادات السياسية إلى حدود التمرّد عليها أحياناً، ما استجلب له تأييداً كبيراً في أوساط الجيش، وكذلك على المستوى الشعبي فاستطاع تشكّيل حالة وطنيّة عند اللبنانيّين.

لقد تمكّن العماد بدعم فرنسيّ أميركي من التمرّد على القرار السوري، ولجأ إلى فرنسا بعد أن تخلّت عنه واشنطن جرّاء عقدها تسوية مع سورية، لكنّ تيّاره انتظم في إطار حزبيّ مواصلاً تحرّكه بين المسيحيّين من جهة، وضدّ سورية وحلفائها من جهة ثانية.

لكنّ هذا النشاط السياسي للعماد من الخارج وتيّاره اللبناني داخلياً أثارا «نقمة» القوى المسيحية عليه من دون أن «يستجلب» عداوة الطرف الإسلامي الذي لم يعد يراه خطراً على امتيازاتهم المستجدّة. ومقابل سيطرة عون على القسم الأكبر من المسيحيّين، تجمّعت أحزاب الكتائب والأحرار و«القوّات» والقيادات المستقلّة من بطرس حرب وفارس سعيد وسمير فرنجية ومكاري ومجدلاني وفرعون وعشرات آخرين… تجمّعوا مع الرئيس المرحوم رفيق الحريري محاولين إسدال ستار من النسيان على انتشار ظاهرة عون.

لكنّ زعامة الرجل اتّسعت أكثر، رغم أنّ القيادة الدينيّة في بكركي كانت تناصبه العداء، بالإضافة إلى مئات ملايين الدولارات التي جرى استعمالها بين الناس للقضاء عليه، وهي أموال كان يوزّعها الحريري على القيادات المسيحية الموالية له لإنفاقها في مناطقهم بهدف كسب الناس. وإذا كان الحريري نجح في الإمساك بالدولة عبر تحالفه مع الرئيس نبيه برّي والوزير وليد جنبلاط والأحزاب والقوى المسيحية المستقلّة المسنودة من بكركي، فإنّ كامل تحالفات الحريري المسيحيّة تراجعت نسب تأييدها في شارعها، حتى وصلت شعبيّة العماد إلى سبعين في المئة مقابل أقلّ من ثلاثين في المئة للقوى الأخرى كلها مجتمعة، ما شكّلت لها ظاهرة عون هاجساً أسماه الوزير جنبلاط «تسونامي»، أيّ «الأعاصير القاتلة».

ولكنّ العلاقة بين الطرفين لم تنقطع تماماً، فتيّار العماد كان يعتبر نفسه مؤسّساً لحركة 14 آذار التي نشأت كردّة فعل على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولم يقطع حبال الودّ العلني معها، وحاولت استثمار الاغتيال في التسلّل إلى السلطة.

أمّا متى وجد الجنرال أنّ الضرورة تقتضي الابتعاد عن هذه الحركة، فكانت عندما أصرّ سعد الحريري على رفض طلب عون الموافقة على حيازته حصة وازنة من مقاعد النوّاب المسيحيّين المحسوبة عليه، والضعيفة شعبياً. في ذلك الوقت كان العماد عون يحوز على أقلّ بقليل من سبعين في المئة من المسيحيّين، لذلك لم يتأخر لحظة واحدة عن إعلان انسحابه من الحالة الحريريّة، وببراعة وجد فريقاً لبنانياً آخر مصاباً برهبة من الاتجاهات الخارجية للحريريّة السياسيّة ببعديها السعودي من جهة، والأميركي من جهة أخرى.

وحدث ما لم يكن في بال أحد من العرّافين في علم السياسة… التقى صاحب أقوى قوّة عند المسيحيّين بأمتن قوّة عند الشيعة وهو حزب الله، وذلك في إطار تحالف كان يُعتبر من المستحيلات سياسياً. وأثبت هذا التحالف متانته في أكثر من تجربة، بينها الحرب «الإسرائيلية» في 2006، التي اتّسمت بعداء للحزب من القوى اللبنانية المحسوبة على السعودية مقابل تأييد عوني لمواقفه وصولاً إلى تأييد شرعية سلاح الحزب في وجه «إسرائيل». فتعاون الطرفان مع حلفائهما في الأحزاب الوطنية والقومية، ومنذ ذلك التاريخ دخل تحالفهما من حالة دفاع في وجه الحريرية ضمن مشروع سياسي مشترك متعدّد الطوائف في إطار من المساواة.

وظلّ حزب الله متمسّكاً بـ«الجنرال الوفي» في المراحل كلّها، حتى أنّه لم يُذعن «لمطالب شيعية» داخلية كانت تنصح بالتخلّي عنه لمصلحة آل الحريري وإعادة تشكيل السلطة على قواعد تتلاءم مع الإمكانات الداخلية والإقليمية لحزب الله.

في المقابل، كانت هناك مساعٍ لسحب التيّار الوطني الحرّ من حلفه مع حزب الله مقابل مغريات في المناصب والمواقع، ولم تنجح.. ولم يقبل «التيّار» بالاتهامات الموجّهة إلى حليفه بأنّه مجرّد مشروع إقليمي غير لبناني، لذلك أسّس هذا التفاهم لإصرار عنيد من الفريقين مع حلفائهم في الأحزاب الوطنية والقومية على موضوع دعم العماد لرئاسة الجمهورية.

وكان لهم ذلك، على الرّغم من كلّ التوتّر وألعاب الخفّة والعروض السخيّة والضغوط الخارجية… أصبح الجنرال رئيساً.

ويتّضح أنّ مصادر قوة الجنرال ترتكز كما تبيّن على المؤسّسة العسكرية، وهي مؤسّسة شرعية يحظى الجنرال بمحبّة أفرادها منذ عقدين على الأقلّ، لكنّها ازدادت مع انتخابه رئيساً، حتى أنّه يمكن القول وببراءة، إنّ لبنان يحتوي حالياً على «الجيش الموالي للرئاسة» و«الأمن الداخلي الموالي للحريرية السياسية»، وتنظيم «المقاومة الموالي لحزب الله».

أمّا المصدر الثاني لقوّته فهم المسيحيّون اللبنانيّون الذين يوالونه بمعدّلات وصلت إلى تسعين في المئة بعد تحالفه مع «القوات اللبنانية»، وربما من دونها. وحزب الله هو الفئة الثالثة التي ترتبط بعلاقات استراتيجية مع الجنرال، ازدادت بعد أن أعلن العماد مؤخّراً أنّ «سلاح حزب الله ضروري للدفاع عن لبنان».

وللعماد مناصرون في معظم الطوائف اللبنانية، يرون فيه حلماً بلبنان غير طائفي يوازن بين أبنائه في تطوّرهم نحو المواطنة والمدينة. لذلك يمكن القول إنّ الرئيس عون هو أقوى رئيس ماروني منذ تأسيس لبنان في 1943، على الرّغم من أنّ الرئيس الراحل كميل شمعون كان قوياً بين المسيحيّين، لكّنه لم يحظَ بتأييد من أيّة قوّة إسلامية فاعلة، فيما يمتلك العماد عون تحالفات إسلامية وازنة ومؤيّدين غير حزبيّين موالين لنهجه في مختلف المذاهب، بالإضافة إلى تأييد الكنائس المسيحية له في لبنان والعالم العربي إلى جانب «الأقليّات» التي تعتبره زعيماً للمشرقية المسيحية.

فكيف يستطيع الجنرال تصريف هذه القوة الهائلة في سبيل بناء لبنان متوازن ومتطوّر؟

إنّ ما يجري على مستوى إعداد قانون جديد للانتخاب لا يبشّر بولادة نهج جديد، فالوزير جبران باسيل لا يزال يكافح لتمرير مشروع يسيطر فيه تيّاره الوطني الحرّ على غالبيّة مقاعد النوّاب المسيحيّين، من دون الأخذ بعين الاعتبار إمكانية وضع قانون يؤسّس للبنان اللاطائفي وصولاً إلى لبنان المدني.

وإذا كان التيّار الوطنيّ في عصر فائض القوّة التي يحوز عليها رئيسه لن يطرح مشروع قانون انتخاب عصري ووطني، فمتى يمكنه أن يفعل ذلك؟ أفي مرحلة تناقص القوّة؟

الكلّ يراهن على العماد ميشال عون لتوجيه خطاب رئاسي يقول فيه للنوّاب أنّ لبنان بحاجة إلى سلسلة رواتب يتمّ تمويلها من ضرب الفساد السياسي وانتزاع الأملاك البحرية من المسيطرين عليها، وإعادة تأجيرها لمصلحة الدولة مع فرض ضرائب على المصارف وأصحاب الرساميل والمشاريع الضخمة.

هذا إلى جانب قانون جديد للانتخاب على قاعدة النسبية التي تحافظ لدورة واحدة على المناصفة الطائفية والتقسيم الجغرافي للأقضية.

أيفعلها العماد عون؟ مَن يمتلك مثل هذه القوة لن يتأخّر، ولا بدّ أنّ شجاعة العماد تترقّب الظروف المناسبة للحيلولة دون انفجارات داخلية يعدّ لها أنصار الإرهاب والخاسرون. وبهذه الطريقة يجري تصريف قوة العهد العوني في سبيل لبنان الواحد، لا في سبيل المجموعات الطائفية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى