قلب شجاع في مواجهة علاقات القوة!
نصار إبراهيم
هناك لحظات أو محطات في تاريخ الإنسان إما أن يكون فيها أو لا يكون، ولكي يكون بالمعنى العالي للكرامة عليه أن يمتلك الوعي والموقف والوضوح، وقبل كلّ ذلك وبعده عليه أن يمتلك قلباً شجاعاً لا يتردّد ولا يهتزّ أمام التهديد والوعيد والضغوط أو الإغراءات… وهذا بالضبط ما كانته ريما خلف السياسية والاقتصادية الأردنية الباسلة حين أعلنت استقالتها من موقعها كأمينة تنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا اسكوا بقلبها الشجاع في 17 آذار 2017 من بيروت… لم تستقل خوفاً ولا ارتباكاً أو تراجعاً، بل إنّ رسالة استقالتها بهذه الطريقة الحاسمة وبالمضمون الذي عبّرت عنه كانت تعادل في قيمتها ربما تقرير اسكوا الذي رفضه الأمين العام للأمم المتحدة، والذي صدر تحت عنوان: «الممارسات الإسرائيلية نحو الشعب الفلسطيني ونظام الفصل العنصري».
«استقلت لأنني أرى من واجبي ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة، وأصرّ على كلّ استنتاجات التقرير» هكذا أعلنت ريما خلف موقفها معلنة في ذات الوقت تمسكها بالتقرير الذي أشرفت على إعداده، متحمّلة بذلك مسؤولية الموقف والشرف والكلمة.
أمام الضغوط وأمام ضعف أمين عام الأمم المتحدة قدّمت ريما استقالتها بكرامة وجرأة، لم تذهب للمناورة والمراوغة، كما لم ترتبك ولم تساوم على موقفها وعلى ثقتها بعملها المهني…
سفير «إسرائيل» في الأمم المتحدة داني دانون طالب الأمين العام للمنظمة الدولية بـ«التنكّر تماماً لهذا التقرير الكاذب الذي يسعى الى تشويه سمعة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط».
غير أنّ ريما خلف مستندة إلى ثقتها بذاتها وبمهنيتها العلمية والعملية، لم تهتز بل ذهبت بالتحدي إلى النهاية، فإنْ كان لدى «إسرائيل» ومن خلفها مراكز القوى والدول التي تهيمن على مؤسسات الأمم المتحدة ما ينقض علمياً وواقعاً ما ورد في التقرير فلتتقدّم به ولتبرهن ذلك.
تقول ريما في استقالتها «في فترة لا تتجاوز الشهرين، وجهت لي تعليمات بسحب تقريرين أصدرتهما الاسكوا، لا لشوائب تعيب المضمون ولا بالضرورة لأنك تختلف المقصود الأمين العام للأمم المتحدة مع هذا المضمون، بل بسبب الضغوط السياسية لدول مسؤولة عن انتهاكات صارخة لحقوق شعوب المنطقة ولحقوق الإنسان عموماً. ولقد رأيت رأي العين كيف أنّ أهل هذه المنطقة يمرّون بمرحلة من المعاناة والألم غير مسبوقة في تاريخهم الحديث، وإنّ طوفان الكوارث الذي يعمّهم اليوم لم يكن إلا نتيجة لسيل من المظالم، تمّ التغاضي عنها، أو التغطية عليها، أو المساهمة المعلنة فيها من حكومات ذات هيمنة وتجبر، من المنطقة ومن خارجها. إنّ هذه الحكومات ذاتها هي التي تضغط عليك اليوم لتكتم صوت الحق والدعوة للعدل الماثلة في هذا التقرير. واضعة في الاعتبار كلّ ما سبق، لا يسعني إلا أن أؤكد إصراري على استنتاجات تقرير الاسكوا القائلة بأنّ إسرائيل قد أسّست نظام فصل عنصري، أبارتايد، يهدف إلى تسلط جماعة عرقية على أخرى».
ثم أردفت قائلة بوضوح وقوة «إنّ الأدلة التي يقدّمها التقرير قاطعة، وتكفيني هنا الإشارة إلى أنّ أياً ممّن هاجموا التقرير لم يمسّوا محتواه بكلمة واحدة. وإني أرى واجبي أن أسلط الضوء على الحقيقة لا أن أتستر عليها وأكتم الشهادة والدليل. والحقيقة المؤلمة هي أنّ نظام فصل عنصري، أبارتايد، ما زال قائماً في القرن الحادي والعشرين، وهذا أمر لا يمكن قبوله في أيّ قانون، ولا أن يُبرّر أخلاقياً بأيّ شكل من الأشكال … عليه، وبعد إمعان النظر في الأمر، أدركت أنني أنا أيضاً لا خيار لي أنا لا أستطيع أن أسحب، مرة أخرى، تقريراً للأمم المتحدة، ممتاز البحث والتوثيقِ، عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان».
بالضبط لم يكن أمام ريما خلف ايّ خيار، فإما المساومة على موقفها أو الاستقالة، فاستقالت، لأنها تدرك في أعماقها ووعيها أنّ هناك مواقف أو لحظات تكون المساومة فيها انتحار أخلاقي وإنساني.
منسق التقرير ربيع بشور في حديث له مع جريدة «النهار» اللبنانية 17 آذار 2017 وصف التقرير قائلاً: «إنه مهم جداً كونه أول تقرير استقصائي علمي مبني على تعريف القانون الدولي لجريمة الابارتايد، وهو موثّق بالأدلة لسياسات «إسرائيل» وممارساتها تجاه الشعب الفلسطيني ككلّ».
وأضاف موضحاً انّ هناك «نقطتين اساسيتين يقوم عليهما التقرير: الممارسات الاسرائيلية تجاه كلّ الشعب الفلسطيني وليس فقط في الأراضي المحتلة من العام 1967 بل في الخارج ايّ اللاجئين في لبنان وسورية والعراق ويضمّ الفصل العنصري ممارسات لا إنسانية تهدف الى سيطرة فئة عرقية على فئة أخرى، وتفتيت الشعب الفلسطيني هو الأداة والاستراتيجية التي اعتمدتها «إسرائيل» لسيطرة الفئة العرقية اليهودية على الشعب الفلسطيني ككل».
وينظر تقرير الأمم المتحدة في تعريف ابارتايد ويقارن ممارسات «إسرائيل» في ما إذا كانت تنطبق عليه. والخلاصة انّ الأدلة تشير الى انّ «اسرائيل أنشأت نظام فصل عنصرياً في فلسطين…»
ولفت بشور إلى أنّ الدول الأعضاء في «الاسكوا» وعددها 18 دولة هي التي طلبت في حزيران 2015 إعداد التقرير. وفي ضوء ذلك «اتصلنا بالخبيرين… أستاذ القانون الدولي في جامعة برينستون في نيوجرسي ريشارد فولك، وأستاذة العلوم السياسية في جامعة جنوب إلينوي فرجينيا تيلي للقيام بالمهمة. وتمّ انجاز التقرير الأسبوع الماضي، قبل إطلاقه يوم الأربعاء الفائت». وعن تبعاته قال انه «يشكل قاعدة تسمح للدول الأعضاء في ما لو أرادت إحالة التحقيق على محكمة الجنائيات الدولية، وإحدى توصيات التقرير ان تقوم الدول بهذه الخطوة».
وأضاف انّ «الفصل العنصري هو من أخطر الجرائم ضدّ الإنسانية في القانون الدولي، وثمة معاهدة خاصة لمكافحة جريمتي الفصل العنصري والإبادة الجماعية».
لكن «إسرائيل» بدلاً من الرد على هذا التحدي الحاسم، وبدلاً من الردّ على ما جاء في التقرير من معلومات وحقائق موثقة… ذهبت إلى ما تجيده ألا وهو تحريك أدواتها وحلفائها من أجل الضغط لسحب التقرير بدون أيّ نقاش أو أيّ اعتبار علمي أو قانوني… ونجحت في ذلك كالعادة.
خلاصة القول إنّ الحقيقة لا تعني شيئاً للدول التي تتحكم بمؤسسات الأمم المتحدة، وهي دول معروفة بتاريخها وممارساتها الاستعمارية والعدوانية ضدّ الشعوب، إنها دول لا تبحث عن الحقيقة، بل إنها توظف علاقات القوة السائدة في المؤسسات الدولية من أجل حماية سياساتها وممارساتها القهرية بما في ذلك ممارسات «إسرائيل» العنصرية.
لذلك فإنّ الأمين العام للأمم المتحدة لا يعنيه إن كان تقرير الاسكوا يقول الحقيقة أم لا، منضبط لأصول البحث العلمي أم لا، فما يشغل باله هو أن لا يثير غضب الدول المهيمنة، ولهذا فإنّ مؤسسات الأمم المتحدة التي يقودها عاجزة عن حماية موقفها ودائماً تخفض رأسها وتتراجع أمام الضغوطات.. كلّ ما تملكه من «شجاعة» هو أنها تطلب من موظفيها الأكثر أمانة وجرأة وشجاعة سياسية وأخلاقية أن يستقيلوا…
لقد كان موقف ريما خلف وهي ترفض الإنصياع والخضوع للضغوط موقفاً مشرّفاً وجريئاً بكلّ معنى الكلمة… غير أنّ هذا الموقف يثير سؤالاً عميقاً: لماذا لم تجد ريما خلف دولاً تسند موقفها المحق، بينما «إسرائيل» التي تدوس كلّ المواثيق والقوانين والأعراف تجد دائماً من يقف معها ويسندها…؟
أين هي جامعة الدول العربية ولماذا لم تعلن وقوفها إلى جانب ريما خلف وتهدّد كما تهدّد إسرائيل ولكن من جهة مقابلة؟ أم أنها مشغولة بتدمير حواضر الأمة في سورية والعراق واليمن، مشغولة بحروبها الطائفية البائسة وبالتالي فإنّ فلسطين هي آخر ما يشغل بالها!
وسؤال أخير: إلى متى ستبقى هذه الأمم المتحدة مزرعة للأقوياء ومنصة لمعاقبة الضعفاء!؟
تحية لك يا سيدة ريما خلف على هذا الموقف الشجاع والواضح… إنك أكثر جرأة وعنفواناً من حكومات ودول بكاملها.