كيف ندير بلداً بعقليات فئوية ومحدودة؟

د. وفيق إبراهيم

تذهب اقتراحات السياسيين اللبنانيين لمعالجة التدهور الاقتصادي نحو مناحٍ ضيقة تصوِّبُ على قطاعات يستفيد منها سياسيون آخرون معادون لهم. وبذلك فإنها لا تعالج الأسباب الفعلية لهذا الانهيار بقدر ما تدخل في إطار الصراع السياسي الفئوي.

واحدة من هذه الاقتراحات المضحكة، ما ورد في المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع.

انطلق «الحكيم» من ضرورة عدم معاداة أصحاب الرساميل، لأنهم كما يقول يؤسّسون المشاريع التي تؤمّن وظائف للناس، معتبراً أنّ البلدان المتقدّمة هي التي تحتوي على مثل هذه المشاريع… ولا يجب إذاً وصفهم بـ«حيتان المال» مطلقاً واحدة من «حِكَمِهِ» وهي ضرورة استبعاد فكرة الصراع الطبقي والتوتر الاجتماعي.

وللردّ فإنّ الناس ترتضي بالجانب الأول من «حكميات جعجع» وهي ارتباط التوسّع في الاستثمار بازدياد الوظائف بما يؤدّي إلى الاستقرار الاجتماعي.

وبالمقارنة بين لبنان والولايات المتحدة الأميركية، نرى أنّ المستثمرين في لبنان، على محدوديتهم يستثمرون ويوظفون ويربحون لكنهم لا… يدفعون ضرائب، مقابل أمثالهم من الأميركيين والأوروبيين واليابانيين، الذين لا يستطيعون إخفاء أرباحهم، ويدفعون الضرائب المستحقة عليهم للدولة وعلى آخر قرش، وهي ضرائب تصل أحياناً إلى الخمسين في المئة في الولايات المتحدة وأوروبا.

المشكلة إذاً، ليست في الاستثمار في مشاريع اقتصادية… المأساة هي في الامتناع عن دفع الضرائب التي تُعتبر للدولة كالدماء في جسم الإنسان وإلا كيف تُعالج الدولة البنى التحتية والاجتماعية والعلمية والعسكرية… وطريقة التهرّب اللبنانية سياسية، لأنّ هؤلاء المستثمرين هم من الطبقة السياسية، أو من المحتمين بها مقابل «رشى وهدايا» محترمة…

فلماذا يعكسُ السيد جعجع الحقائق؟ لأنه يحمي عشرات المستثمرين من هذا النوع الذين يتقدّمون من وزارة المال بموازنات خاسرة، تثير شفقة «المدققين» المصابين بأعراض المودّة والحنان.. ومثل هذه الخسائر ترقى إلى مئات ملايين الدولارات من دون أن يتحرّك جفن للسياسيين وعلى رأسهم السيد جعجع.

أما عن الكهرباء، فالاستثمار في إصلاحها يحتاج إلى أموال ليست موجودة، بالإضافة إلى أنّ تسليمها للقطاع الخاص يُدخلها في مفسدة جديدة. فلماذا لا يُعهد بها إلى فئات محترمة ومراقبة من القطاع العام تستطيع احترام حقوق الناس والقضاء على «إمبراطورية» المولدات الكهربائية التي تمتلكها أحزاب سياسية… والتستر وراء اتهامات ذات طابع طائفي ومذهبي لا يفيد أحداً، لأنّ الميليشيات المتنوّعة استولت على الإمكانات الاقتصادية لشرق بيروت خمسة عشر عاماً، وخسرت الثقة بها حتى بالحدود الدنيا.. فكيف نسلّمها قطاعاً كهربائياً دفع عليه المواطنون حتى الآن عشرين مليار دولار. والاتهام هنا موجّه إلى معظم الفئات السياسية في لبنان، لأنها لا تزال تتقاسم منافع مؤسسات القطاع العام. فهذه لذاك وأخرى لآخر، وهكذا دواليك.

أما لجهة التهرّب الضريبي فيجب على «الحكيم» أن يعرف أنّ الدولة تقتطع سلفاً من رواتب الموظفين الضرائب الخاصة بهم.. ما يعني أنّ عليه أن يفتش في الطبقات العليا عن المتهرّبين من سدادها. وذلك بأغطية سياسية تفوح منها روائح العفن والقذارة.

وكذلك فإنّ قطاع الجمارك مسيَّبٌ لكلّ الفئات السياسية التي تتقاسمه وتتناهبه علناً من دون حسيب أو رقيب، من المطار إلى المرافئ والمراكز الحدودية والمعابر الشرعية وغير الشرعية. فالتصويب على تهريب الأجهزة الخلوية من المطار إلى الضاحية حصراً يقابله أكثر من تصويب على من أخذ عمولة لقاء طمر نفايات كيمياوية ملوّثة في جبال لبنان. مع التصويب على من استورد سلاحاً من «إسرائيل» وأعاد بيعه في أنحاء متوترة من العالم وفرض خوات على مناطق لبنانية شاسعة، وإلاّ فمن أين أتى هؤلاء بثمن القصور والبيوت والأملاك التي لا تقدّر بثمن.

ويخلط جعجع في واحدة من حكمياته الجديدة بين التوظيف الشرعي والتوظيف السياسي… فالأول مرتبط بمؤهّلات ودوام لقاء راتب تأخذ منه الدولة نصيبها. أما الثاني فهو توظيف عجيب ليس مطلوباً من صاحبه أن يحضر.. ليزاول مسؤوليات محدودة ويجب عليه فقط أن يؤيّد السياسي الذي وظفه ويمارس حضوراً يومياً عنده أو في مراكزه الحزبية.. والدولة تدفع لنمو هذا السياسي أو ذاك يا سيد جعجع.. بمن فيهم أنت!

والمؤكد أنّ على الدولة أن توقف «التوظيف السياسي»، فتلغي هدراً كبيراً، لكن عليها في المقابل أن تطوّر التوظيف الشرعي ليصبح أكثر إنتاجاً للدولة وللموظف في آن معاً… فلا تقنِّن عليه حق التطور في الرواتب وتمنع عنه العيش باحترام.. ما يدفعه إلى ممارسة أساليب الغش والرشى في أداء الوظيفة، خصوصاً في القطاعات ذات المردود المالي المباشر.

لكن أكثر ما يثير الضحك في حكميات جعجع استغرابه كيف أنّ رواتب الموظفين تلتهم 35 في المئة من الموازنة؟ وللموظفين حق في سؤاله كيف أنّ المصارف تربح في ستة أشهر فقط نحو خمسة مليارات دولار. ويضيفون مطالبين السيد جعجع بالإصرار على مسألتين مترابطتين: طرد الموظفين غير الشرعيين وإعطاء الموظفين الشرعيين حقوقهم، فهو جدير بذلك.. ويسأله الموظفون عن أسماء المواد التي تنتجها هذه الدولة التي يعيش سياسيوها على المال السياسي الداخلي والخارجي ولا تنتج شيئاً.

وفي أخطر اقتراحاته إطلاقه السخرية من العرب الذين كان معروضاً عليهم تقسيم فلسطين، كما زعم، ورفضوه. وهم اليوم يريدون حلّ الدولتين ولا تقبل «إسرائيل».. فكان عليهم حسب المحلل الاستراتيجي جعجع، أن يقبلوا بالعرض القديم الذي كان وفّر على أحزاب لبنانية المشاركة في غزو بلدهم على متن الدبابات «الإسرائيلية» في عام 1982.

فلماذا يُصرّ الحكيم على وقف التوظيف وإلغاء نظام التقاعد؟ لأنه عرف من صديقه رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة أنّ واشنطن لا تعمل بنظام التقاعد من دون أن يخبره أنّ أميركا تدفع رواتب عالية جداً، يستطيع الموظف أن يقتصد منها للعمر المديد.. أما لبنان فيمنح رواتب تجعل من الموظفين جياعاً والمتقاعدين أمواتاً وهم على قيد الحياة.

أما زبدة حكمياته، فاتهامه حزب الله بضرب الحركة السياحية والاقتصادية لدوره الداخلي والإقليمي.

وللتفسير، فإنّ دور حزب الله الداخلي كان كبيراً حين قاتل «إسرائيل» في 1982 وحتى 2000 ولم يأخذ مقابلاً سياسياً له كما تفعل كلّ حركات المقاومة في التاريخ من فرنسا إلى أميركا وبريطانيا وإسبانيا والعالمين الآسيوي والأفريقي. ما فعله الحزب أنه حرّر جنوب لبنان الذي يُفترض أنه منطقة لبنانية، وذلك بعد تركها للاحتلال من قِبل «دولة سمير جعجع».. وهذا «خطأ» اقترفه الحزب بحق بائعي بلدهم لـ«الإسرائيلي»، لكنه بالنسبة للبنانيين يُعتبر عملاً عظيماً يذكره التاريخ، وأنّ المجاهدين اللبنانيين من الطوائف كلها ألحقوا بـ«إسرائيل» أول هزيمة حقيقية. وهذا ما لا يقبله جعجع الذي يتقن ألوان «العراضات والمكرمات والخدمات السياسية».

وكان أفضل له أن لا يقترب من تاريخ القائد السابق للأمن العام اللواء جميل السيد المعروف باستقامته ونزاهته ووطنيته، وتأييده للدور السوري الذي يندرج في إطار الصراع مع العدو «الإسرائيلي»، ولو كره ذلك المئات من أمثال هؤلاء المعترضين الذين لا مكان لهم في التاريخ المجيد لمنطقتنا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى