محمد البعلبكي.. بوركت جسداً أعطى وروحاً خالدة
اياد موصللي
حكم القدر… وانتهت المسيرة الجسدية لمحمد البعلبكي… سقط الجسد وبقيت الروح والحقيقة التي سجلها أحرفاً وموقفاً وفكراً تسقط أجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود…
فقدنا محمد البعلبكي عطاء وزخماً ووجوداً وبقي محمد البعلبكي في الذاكرة والوجدان في الفكر والكتاب..
تاريخ مليء حافل غني في الرجولة والبطولة والثبات رافقته طويلاً والتقتيه كثيراً وزاملته في النضال والمهنة..
أول لقاء لي به كان في النظر والرؤية في سجن الرمل عام 1949.. بعد استشهاد الزعيم سجن محمد البعلبكي بسبب كتاباته في جريدة «كلّ شيء»، ولما جيء به الى السجن كان خبراً تناقلناه وتوقفنا عنده.. سمعنا بمحمد البعلبكي عبر جريدة «كلّ شيء» وكتابات الزعيم فيها ما التقينا بمحمد البعلبكي في نطاق النظام كرفيق.
لذلك كان مجيئه إلى السجن خبر كبير وضعوه في نظارة المستشفى، حيث وضع غسان تويني.. بدأنا بتنسّم أخبار محمد البعلبكي.. انه رفيق انتمى للحزب قبل الغدر بالزعيم بيوم واحد واقسم اليمين على يديه.
بدأ اسم محمد البعلبكي يلمع في مواقف البطولة المؤيدة بصحة العقيدة وبدأنا نقرأ اسبوعياً جريدة «كلّ شيء» التي كانت تهرّب لنا في قواويش السجن ونقرأ فيها كتابات محمد البعلبكي وجرأته وصلابته في مجابهة الإرهاب الذي تعرّض له الحزب..
بعد خروجي من السجن وممارستي للعمل الصحافي التقتيه كثيراً.. كنت في «الجيل الجديد» و«الزوابع»، وكان لقاؤنا حزبياً في مناسبات عديدة. وفي عام 1957 عملتُ في جريدة «صدى لبنان» التي أصدرها محمد البعلبكي وكان رئيس تحريرها ياسر هواري وسكرتير التحرير كيوان نصار، وكان مكتبنا في بناية اللعازارية. تنقلت كثيراً بين «صدى لبنان» وسواها، عملتُ فيها عندما انتقلت الى شارع بشارة الخوري خلف وزارة المالية، ثم في شارع الحمراء خلف البنك المركزي.
تطوّرت علاقتي بالنقيب محمد البعلبكي وتجذّرت وأصبح لها طابع خاص تؤطره المودة والمحبة والتعاطف الشخصي، وعندما أصبح نقيباً كانت زياراتي له لا تتوقف..
عندما سجن بعد المحاولة الانقلابية مطلع عام 1962 كانت المحاكمات على رغم صوريتها وخياليتها منبراً للرجولة وثبات العقيدة والمثال الكبير للمناقبية والالتزام، وبرز محمد البعلبكي في تلك المحاكمات التي كنت أتابعها كمندوب لجريدة «لسان الحال»… وكنت أدوّن وقائعها حرفياً.
كان محمد البعلبكي المثال الحيّ للفعل الذي ينطلق من رسوخ الإيمان وثبات العقيدة ووقفة العز. حقق محمد البعلبكي في تلك الفترة ما نادى به الزعيم رفقاء الحزب.. ما أشدّ اعتزازي بكم..
بعد فترة السجن وعودة محمد البعلبكي الى حياته العادية وانتخابه نقيباً للصحافة… جمعتني به مناسبات عدة ذات طابع مهني خصّني فيها برعاية ومودة..
فعندما أصدرت كتاب «سيفنا هو القلم» قرأ مسودته وشجعني على إصداره وكتب مقدّمته ووقعها وقال في المقدمة التي توّج بها كتاب «سيفنا هو القلم»:
آمن اياد موصللي بصحافة حرة، وصحافة لبنان هي السباقة في حمل راية الحرية والمنافحة عن المواطنين المهضومي الحقوق والذين يتعرّضون لعذابات من حكام مستبدّين. وقد صدّرت هذه الحرية إلى الدول العربية القريبة والبعيدة. ويكفي اياد موصللي فخراً انه كان من رواد الصحافة الحرة.
انّ الصحافة رسالة، والمجتمع بكلّ أطيافه بحاجة الى هذه الرسالة، وعليه فإنّ عمل اياد موصللي الإعلامي كان رسالة. وأنعم بها رسالة يحملها الصحافي المميّز فوق المنكبين يطوف بها العالم كله.
ومحمد البعلبكي النقيب والرائد في الصحافة التي أغناها بوجوده ومؤلفاته وكتاباته وخطبه… ومن أقواله فيها:
«الرسل والأنبياء كانوا إعلاميين لأنّ نشر الرسالة إبلاغ للناس بتعاليم السماء، فالرسل والأنبياء هم أول الإعلاميين في الدنيا لأنّ رسالتهم إعلام. ولو كانوا اليوم لأسّسوا وسائل إعلام من أجل نشر رسالتهم السماوية. فالدعوة السماوية بحاجة للدعاة وهذا بحدّ ذاته إعلام…»
في السادس من أيار 2013 قلّدني درع الصحافة في احتفال أقيم في نقابة الصحافة للذين أمضوا أكثر من خمسن عاماً في المهنة..
وأقام النقيب محمد البعلبكي ندوة دعا اليها الإعلاميين والأدباء والمناضلين بمناسبة صدور كتابي «حاربت في فلسطين قبل بيعها» أقيم الاحتفال في 26/11/2013.
وألقى كلمة في هذا الاحتفال..
ومما قال: «عقد هذه الندوة حول كتاب «حاربت في فلسطين قبل بيعها» للزميل اياد موصللي التفاتة نحو صحافي عايش النكبة الفلسطينية بكلّ أبعادها..
اياد موصللي الصحافي المتوثب دوماً نحو العطاء خاض حرب فلسطين محارباً في الداخل وعلى الجبهات…»
بعد تقاعده واستراحته تابعت لقاءاتي به وزياراتي له في منزله.. وكنت أحسّ بفرحه لهذه الزيارات، وفي آخر لقاء بيننا قبل وفاته أبلغني انه في صدد طبع كتاب عن مذكراته، وقال لي سأطلعك عليها وتبدي لي رأيك.. ولم يتمّ هذا الأمر لأن يد القدر كانت أسرع..
واذا توقفنا عند محمد البعلبكي الرفيق القومي الاجتماعي نرى هذه الفترة هي البيرق الخفاق والبارز في حياته كلها والبصمة التي طبع فيها مسيرته..
أبرز ما يسطره تاريخه انه اقسم اليمين الحزبي وانتمى للحزب على يد الزعيم سعاده وقبل يوم واحد من الخيانة التي تعرّض لها الزعيم وتسليمه لجلاديه حيث استشهد..
انتمى للحزب في تموز 1949.. ونشط في الحزب واعتقل عدة مرات لفترات قصيرة.. في المحاولة الانقلابية وقف وقفة تاريخية مدهشة في الجرأة والصلابة والشجاعة والثبات والوضوح وقوة الحجة والإيمان الذي أبداه أثناء إلقاء دفاعه في قاعة المحكمة ولعلّ موقف محمد البعلبكي كان صورة الاقتداء بموقف الزعيم في محاكمته. لقد تابعتُ تلك الفترة شخصياً وكان مسيطراً على الجو العام، فرض هيبته بجرأته وفصاحته ودقة مطالعته.
حكم بالإعدام ابتسم وهو يسمع الحكم.. خفض الحكم للمؤبّد وصدر العفو وخرج من السجن وتتابعت لقاءاتي به..
أمثال محمد البعلبكي تذهب أجسادهم وتبقى آثارهم وذكراهم في أفكارهم وأعمالهم بصمات تاريخية لا تمحى..
وقف الزعيم أمام جلاديه وقفة الرسل، وقفة العز، وكانت تلك الوقفة طريق البطولة والثبات بالإيمان وسخاء العطاء من أجل الحياة.. محمد البعلبكي أعطى في الحياة شهادة هي أننا آمنا بحقيقتنا، وإذا سقطت أجسادنا فإنّ نفوسنا قد فرضت حقيقتها على هذا الوجود.
محمد البعلبكي بوركت جسداً أعطى وروحاً خالدة…