تدمير علاقات لبنان بسورية والعراق ليس عملاً بريئاً
د. وفيق إبراهيم
تتضافر العناصر الجغرافيّة لتمنح لبنان صفة المستفيد الرئيسي من أيّ تحسّن للأوضاع في سورية والعراق.. وهذا يحتاج بالطبع إلى «السياسة الرشيدة» التي تشجّع على نصب علاقة جيدة تفتح عادةً الأبواب الموصدة، وتؤسّس لمبادلات اقتصادية عميقة.
هل هذه الفرضيّة صحيحة؟ ولماذا؟
يُعتبر العراق من البلدان الداخليّة المحرومة من منافذ بحريّة واسعة، وساحله على شطّ العرب لا يزيد كثيراً عن الخمسين كيلومتراً مربّعاً لا تلبّي حاجات بلدٍ تزيد مساحته عن 380 ألف كيلو متر مربع.
لذلك بنى العراق شبكة أنابيب لتصدير نفطه من خلال المرافئ التركية، ويعتمد على إيران وتركيا والأردن والنقل الجوّي لاستيراد البضائع الاقتصادية وتصديرها.
لكنّ التدقيق السياسي يكشف وجود أزمة عميقة بينه وبين جيرانه، فلم تعد بغداد تطيق الدور التركي على أراضيها الداعم للإرهاب من جهة، والمحرّض للعراقيين على التنافر المذهبي من جهة ثانية، والعرقي من جهةٍ ثالثة.
أمّا الأردن، فعلاقاته السياسية بالعراق تمرّ من خلال السياسة الأميركية، بالإضافة إلى أنّه بلد داخلي أيضاً ساحله ضيّق جداً.. وليست لديه صناعات. أمّا لجهة إيران، فإنّها لا تستطيع أداء أدوار أكبر ممّا تفعله حالياً للاختلاف الداخلي على هذا الأمر بين المكوّنات العراقية، وهناك مَن يعترض على الارتباطات العميقة بين البلدين بتحريض أميركي خليجي تركي.
ولأنّ العراق بلد غنيّ بالنفط الجيد النوعية ويحتاج إلى استيراد سلع كثيرة لتلبية حاجاته الداخلية، فلن يجد أمامه إلّا سورية الدولة الصديقة والحليفة، معبراً للوصول إلى البحر الأبيض المتوسّط، سواء من ساحلها أو من خلال الساحل اللبناني.. أخذاً بعين الاعتبار علاقاته المتفاقمة مع الكويت والسعودية اللتين تجعلان من استعماله لمياه الخليج مسألة ليست آمنة على مستوى الإمكانات والتسهيلات.
يُذكر أيضاً أنّ العراق هو البلد الخامس على مستوى الاحتياطات النفطية، وهناك معلومات غربيّة تعتقد أنّه يمتلك الاحتياطات الأضخم في العالم من مناطق غير مكتشفة في أراضيه الشاسعة، ولعلّ هذا ما يبرّر العنف والتدمير اللذين يدكّان أرجاءه بواسطة الإرهاب التكفيري المغطّى من قِبل الخليج والغرب.
ويفسّر أيضاً أسباب احتلال الجيش التركي قسماً من أراضيه مع الاهتمام الأميركي المحوري به وبدايات اهتمام روسيا بتحسين علاقاتها معه إلى جانب اهتمام صيني ملحوظ.
بالنسبة إلى سورية، فعلاقاتها بلبنان تاريخيّة ويكمّلان بعضهما بعضاً، خصوصاً أنّ بيروت هي المتنفّس البحري الإضافي لها إلى جانب الساحل السوري، وسورية هي الطريق المؤدي الوحيد الذي يربط لبنان بالخليج والعراق. لذلك، يختنق لبنان من دون فتح الحدود السوريّة، لأن قطاع الخدمات فيه كان يعيل ثلث اللبنانيّين بشكل مباشر، وثلثاً آخر بشكل غير مباشر. ولعلّ هذا الأمر من الأسباب الأساسيّة للتدهور الاقتصادي فيه إلى جانب أسباب داخليّة هامّة.
هناك إضافات أساسيّة مستجدّة تفرض على الدولتين سياسات تكامل لا تكتفي بالتاريخ الموجود فعلياً، بل تطرح نفسها عاملاً أساسياً لبناء معادلات تؤدّي إلى ازدهارهما معاً. فقد تسرّبت معلومات غربيّة، لا يبدو أنّ روسيا غافلة عنها، عن وجود كميات هائلة من الغاز تجعل من سورية البلد الثالث بإنتاجه بعد روسيا وإيران وقبل قطر والجزائر، بكميّات تزيد عن 28 تريليون متر مكعب، أيّ بما يزيد عن الكميّات الموجودة في كلّ من مصر وفلسطين المحتلة ولبنان وقبرص بمرّتين على الأقلّ.
فهل هي مصادفة أن تكون منطقتَيْ تدمر وقارة من أهمّ الأجزاء التي تحتوي على هذه الثروات إلى جانب بانياس وطرطوس؟ وما علاقة حروب تدمر وقارة بها؟ وهل اختيار الروس للساحل السوري لتمركزهم البحري والداخلي جرى لأسباب سياسية فقط؟
ولماذا تصرّ الولايات المتحدة على انتزاع تدمر من الجيش السوري، وتفعل مثلها الجماعات الإرهابية المدعومة من قطر والسعودية؟ هذه الجماعات لا تنفكّ تهاجم هذه المناطق كلّما سنحت لها الفرصة برعاية الأقمار الاصطناعية الأميركية، وغضّ الطرف من طيران التحالف الأميركي والغربي والتركي!
هناك سؤال آخر، وهو هل تستطيع دمشق بمفردها إنتاج هذا الغاز وتسويقه وتصديره من مرافئها؟ تقول المعلومات إنّ عمر هذا الغاز طويل جداً ويحتاج إلى شبكة موانئ للتصدير، يحتلّ الساحل اللبناني رأس اللائحة فيها لأنّه مرفأ بلاد الشام ورديف الساحل السوريّ، آخذاً بعين الاعتبار استحالة التعاون مع تركيا التي دعمت القوى الإرهابية على تدمير سورية.
تعطي هذه الأسباب فكرة عن المدى الإيجابي الذي يحتلّه لبنان بتوفير خدمات اقتصادية دائمة قد تمتدّ إلى قرون مع سورية والعراق، وذلك على مستويين: تصدير الثروات الاقتصادية من سواحل لبنان، وإعادة بناء قطاع الخدمات اللبناني وعلى رأسه الاستيراد والتصدير والسياحة.
إنّما ما هي الموانع التي تحول دون ذلك؟ هناك الحروب الداخلية في سورية والعراق، والدور الأميركي الغربي والمعوّقات الواردة من السعودية وقطر وتركيا، وسياسة الاستعداء السياسية التي تمارسها قوى سياسية لبنانية ضدّ النظامين العراقي والسوري…
على مستوى واشنطن، فتصريحات وزير دفاعها الجديد عن نيّة بلاده الإبقاء على قوّات أميركية بعد تحرير الموصل في العراق، وسورية بعد تحرير مدينة الرقّة مع نشر قوّات أميركية على طول المعابر الممتدة بين العراق وسورية والأردن، تكشف مدى الاهتمام الأميركي بعرقلة تقدّم العلاقات بين محور العراق سورية لبنان، لأنّها تعرف أهميّته وأبعاده. وتأتي الأدوار السعودية القطرية التركية عناصر إضافية للعرقلة، لأنّ السعودية تخشى من عراق مزدهر ينافسها في السوق النفطيّة، وبالتالي على زعامة الخليج والعالم العربي. وهذا ما تخشاه قطر التي تعتبر أنّ سورية تتمتّع بعناصر إضافية لتسهيل تسويق الغاز فيها أكثر من الدوحة، إلى جانب الدور القطري التقليدي الذي يعمل في خدمة الأدوار الأميركية والتركية و«الإسرائيلية».
هذه هي مجمل الموانع التي لا تسمح الآن ببناء محور مزدهر من بغداد إلى بيروت، لكنّها لا تستطيع إلغاءه، بل مجرّد تأجيله إلى مرحلة ما بعد وضع الحروب أوزارها.
لكنّ سياسات لبنانية فئويّة تنبثق لتضيف إلى هذه الموانع عراقيل إضافية، وهي ليست سياسات أصيلة، بل مجرّد مواقع مستتبعة للسياسة السعودية.. هؤلاء اللبنانيّون لا يأبهون لمستقبل بلادهم، ويعتقدون أنّ الارتباط بالرياض مأثرة تقيهم «شرّ العوز». وأنّ الانسجام مع السياسة التركية القطرية تمنحهم إضافات في «الشرق الأوسط».
هؤلاء لا يعرفون أنّ لبنان لا يستطيع العيش من دون حدود سوريّة مفتوحة مهما دعمته بلدان الخليج، لأنّه لا يمتلك ثروات نفط وغاز أو من أيّ مصدر آخر، لذلك يلجأ إلى قطاع الخدمات المرتكز على «الترانزيت» في الاستيراد والتصدير والأعمال السياحية والمصرفية، وهذه تحتاج إلى حدود مفتوحة وطرقات مفتوحة.. فلماذا لا يعتبر لبنان أنّ المدى العراقي النفطي والمدى السوري الغازي الخدماتي هما السبيلان الوحيدان لرفع الضّيم الاقتصادي عنه. لبنان المنشغل بديون تزيد عن 80 مليار دولار في بلد لا تزيد موازنته السنويّة عن عشرة مليارات دولار.
أليس من الأفضل إعادة بناء دور اقتصادي كبير ودائم للبنان يعيد إنتاج قطاع خدمات يؤمّن أعمالاً لنصف اللبنانيّين، ويعيد قسماً من أبنائه الموزّعين في أربع رياح الأرض.
هذه العناصر مجتمعة هي التي تفرض على لبنان الانتماء إلى محيطه المباشر الذي يؤمّن الازدهار والاستقرار السياسي على حساب تراجع المحاور الخليجية، والإقليمية التي يعمل لمصلحتها بعض السياسيّين في لبنان.