«كيف كان العشا؟» لكارلوس شاهين… وغوصٌ في خفايا العلاقات الزوجيّة

أحمد طيّ

يا سامعين الصوت من معشر المسرحيّين، لو كُنتُ، أنا الأربعينيّ الذي شاهد ـ مباشرةً أو عبر الشاشة ـ مسرحيات كثيرة، عالمية وعربية ولبنانية، قديمة وحديثة، اجتماعية وهزلية وتراجيدية واستعراضية، لو كنتُ مخطئاً فصحّحوا لي، فتالله لم أسمع إلّا في ما ندر، كلمات سوقية يزخر بها أيّ حوار مسرحيّ، إلّا إذا استثنينا أعمال العملاق زياد الرحباني، التي استخدم فيها عدداً قليلاً من المفردات المبتذلة، والتي أتت في محلّها، جميلة خفيفة مضحكة. كما نستثني «أعمالاً» لا أعدّها ـ شخصياً ـ من الأعمال المسرحية، بل تهريج مبتذل كتلك الأعمال التي يجسّد مقدّموها نكاتاً وطرائف غالباً ما تكون حول الجنس.

مناسبة هذه المقدّمة، مسرحية دُعيتُ إلى مشاهدتها الأسبوع الماضي. العنوان صارخ: «كيف كان العشا؟»، والمخرج كارلوس شاهين نحترمه ونجلّه ونقدّر أعماله السابقة ومنها: «المجزرة»، و«بستان الكرز». ولدى بحثنا المبدئيّ عن نصّ المسرحية، وجدنا أنّه مقتبس عن نصّ للأميركي دونالد مارغوليس، الفائز عام 2000 بجائزة «بوليتزر». كما وجدنا الطاقم التمثيليّ موفّقاً، بدءاً من سحر عساف وجوزف زيتوني، مروراً بآلان سعادة وسيرينا الشامي التي أبدعت مؤخّراً في فيلم «محبس» من إخراج صوفي بطرس. أما المكان، فكان مسرح «مونو» الذي شهدت خشبته مئات المسرحيات الناجحة.

حتّى ما قبل العرض، المقوّمات دسمة جدّاً والمغريات كثيرة لمشاهدة المسرحية، التي بدأت قوية، مع ممثلين شباب تليق بهم الخشبة حضوراً وصوتاً وأداءً وعفويةً، وسرعان ما تنكشف ملامح العقدة لدى من يجهل النصّ الأصليّ… المسرحية تغوص في العلاقات الزوجية ومكنوناتها ومجاهلها، بين الحبّ والغيرة والخيانة والالتزام والتسرّع والتروّي والصراخ والشجار والجنس والأولاد و… حتّى الطبخ.

المسرحية تتناول «كوبلين»: «غابي» جوزف زيتوني و«كارين» سحر عسّاف من جهة، و«توم» آلان سعادة و«لينا» سيرينا الشامي من جهة ثانية، وتجمع هذين الـ«كوبلين»، الصداقة المتينة منذ أيام الجامعة، كما تجمعهما الثقة المتبادلة والسعادة الزوجية، ليشكّلا، مع الأبناء، أسرتين متّحدتين ومتينتين. ليأتي ذلك العشاء، حين تعلن «لينا» لـ«غابي» و«كارين»، أنّ «توم» سيتخلّى عنها من أجل امرأة أخرى. فيقع الخبر كالصاعقة عليهما، ويقلب قيمهما ومعنى حياتهما رأساً على عقب، لتغزو الصدمة بهولها حياة «غابي» و«كارين»، إذ أهان صديقاهما، اللذان لطالما اعتقدا أنهما مثلهما ولا يمكن أن ينفصلا، نظرتهما الرفيعة إلى الالتزام والحبّ والأسرة.

بدأت المسرحية بذلك العشاء، أما التفاصيل التي تحدّثنا عنها، فوردت في سياق العرض، الذي اعتمد تقنية العودة بالزمن إلى الوراء. بدأت المسرحية بذلك العشاء، قويّةً مؤثّرةً مُضحكةً عفوية، حيث زخر حوار سحر عساف وجوزف زيتوني بسردٍ «مهضوم» عن رحلتهما إلى روما، وعن طريقة صنع بعض المأكولات والأطباق. «هضامة» تمنّينا لو تتكرّر، إذ إنّ تدخّل «غابي» بشخصيته العفوية في الحوار، منح المسرحية نفحة كوميدية خفيفة تأنس لها القلوب. وأيضاً، أبدعت سحر عسّاف في تأدية دور «كارين» وإسقاط هذه الشخصية على المرأة اللبنانية «المهضومة».

أما سيرينا الشامي، فقد لعبت بحرفنة دور «لينا» في ذلك العشاء، «لينا» المصدومة من هول «فعلة» زوجها، والتي تحاول قدر الإمكان أن تحبس غصّتها خلف ضحكات مصطنعة إزاء حوار «غابي» و«كارين»، إلى أن تعلن الاستسلام أمام الغصّة، فتنفجر باكيةً، معلنةً المصيبة.

طوال هذا المشهد الجميل، كنّا نشاهد مسرحاً جميلاً، يذكّرنا كثيراً بمسرح جورج خبّاز المبدع، إلى أن بدأ المشهد التالي، حواراً بين «لينا» و«توم»، بدأ مهضوماً سلساً ثمّ…

مفردَة سوقيّة مرّت أو مُرّرت، ليتكرّر الأمر عشرات المرّات في حوار مدّته دقائق معدودة!

السؤال هنا للمخرج شاهين: لماذا؟ ماذا أضاف هذا الابتذال وهذه الكلمات البذيئة إلى العمل الذي بدأ قوياً؟ نعلم جيّداً أنّ الشارع اللبناني مليءٌ بهذه العبارات التي تتردّد على ألسنة لبنانيين كثيرين، كوسيلة للسباب أو للمزاح. وقد تقولون إنّ المسرحية تشكّل إسقاطاً على المجتمع اللبناني، الذي لا يخلو من هذه المفردات. وقد تُعذَرون حين تتذرّعون بأنّ هناك برامج أكثر ابتذالاً تُعرَض على القنوات اللبنانية. وقد وقد وقد… تكثر الحُجج والذرائع، لكن الحقّ يقول إنّ الإفراط في حشو نصّ المسرحية بهذه المفردات البذيئة، أفقد المسرحية ألقها، لا بل قضى عليها وأجهز.

ثمّة لبنانيين كثيرين ما زالوا على خُلق، ولا يستعملون هذه الألفاظ البتّة، لا علناً ولا بشكل مضمر. ولتصدّق أنّ هؤلاء حالما يسمعون ألفاظاً كهذه يشمئزّون، ويتساءلون عن جدوى استعمالها في مسرحية خُلقت ليشاهدها الناس ويخلّدها الناس.

وبالعودة إلى المسرحية، فإنّ «كيف كان العشا؟» مسرحية هزلية ومؤثّرة تناقش أسس مجتمعنا وقيَمه، وتضعنا أمام سبّحة من التساؤلات: ما هو الحبّ؟ ما هو الالتزام؟ ما هو الزواج؟ هل النضال في سبيل البقاء مع الشخص الذي تزوّجنا به واجبٌ ـ مهما كان الثمن ـ لمصلحة العائلة والأبناء، أم أنه من الأفضل أن نصغي إلى رغباتنا وأن نحاول أن نكون سعداء لأنّ السعادة ستكون أفضل درس من دروس الحياة قد ننقله إلى أبنائنا؟

يا لتلك الأفكار القوية، والتي جسّدها الرباعي زيتوني وعسّاف وسعادة والشامي بكلّ قوّة وحرفنة، لولا «اللتّ والعجن» الذي أفسد العرض في بعض المكامن، والإفراط في استخدام الألفاظ السوقية، الذي قضى عليه.

أعتذر عن هذه القسوة، لكنّ الأمانة تحدو بي أن أكتب عمّا شعرت به بعد المشاهدة. تحيّة إلى المبدعين الأربعة الذين نرى أمامهم مستقبلاً جميلاً كأدائهم. وتحيّة إلى المخرج كارلوس شاهين الذي لم يُصِب الهدف كاملاً هذه المرّة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى