معلّمات وأمّهات يتحدّثن عن أطفال لا تنقصهم الإرادة ولا تنصفهم الشفقة الدكتورة شفيقة منصور غريبة: التوحّد ليس مرضاً… إنما اضطراب في السلوك
عبير حمدان
تقترب سارة حيث أجلس مع معلّماتها، وفي عينيها بريق يدعوني إلى تلقّف التحية الجميلة التي تشبه براءة حضورها. في يدي آلة التسجيل، واليد الأخرى تلتفّ لتغمر هذه الطفلة التي تستكين وتميل نحوي وكأنها تصغي إلى ما نقوله عنها وعن رفاقها… وحين أرفع يدي عن ذهب خصلاتها تعيدها بإصرار. وهنا أسأل نفسي: هل هي التي تحتاج إلى معاملة خاصّة؟ أم نحن المثقلون بتعب الحياة والباحثون عن نافذة مشرعة على الأمل؟
هم مختلفون نعم لكنّهم ليسوا متخلّفين، لديهم القدرة على التفاعل إذا وجدوا مَن يخاطبهم كما يجب وضمن الإطار العلمي والمنطقي، ومنهم مَن ينجح في الاندماج مع المجتمع في نهاية المطاف.
التوحّد ليس مرضاً، إنما هو اضطراب في السلوك، ولعلّ في داخل كلّ فرد منّا طيفاً للتوحّد حين نصرّ على موقف ما ونرفض النقاش حوله، لاعتقادنا أننا على حقّ ولو كنا مخطئين. وحين نتمسّك بشيء نحبّه حدّ التملّك وحين نتعمّد الصمم من جرّاء قناعة مسبقة أننا لا نريد الإصغاء إلى باقي الآراء.
الجوّ العائلي
لكلّ منّا عالمه الخاص ولو أننا لا نعاني ظاهرياً من طيف التوحّد الذاتوي. ونخطئ حين ننظر إلى الطفل المتوحّد بعين الرفض أو الشفقة. ربما علينا مراجعة ذاتنا كي ندرك أنه ليس مريضاً إنما هو مختلف ومتميّز في مكان ما.
يسيطر الجوّ العائلي في جمعية «ALI for ABA Autism Lebanon » وتظهر الحماسة على المعلمات اللواتي يعتبرن أن الهدف من تواجدهن في هذا المكان إيصال الأطفال إلى مرحلة الدمج المتكامل مع محيطهم، وذلك دونه الكثير من الصعوبات والصبر والمثابرة.
ترى سحر أن المسؤولية مضاعفة لناحية التعاطي مع الطفل الذي يعاني من طيف التوحّد وعن تجربتها تقول: أتمنّى أن يصل الأطفال الذين يعانون من طيف التوحّد إلى مرحلة متقدّمة تسمح لهم بالاندماج في المجتمع الذي ـ وللاسف ـ يرفضهم في مكان ما. ولا أنكر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقي لناحية التفاعل مع هؤلاء الأطفال، وربما لأنّني أمّ أشعر أنّني معنيّة بشكل مباشر في منحهم كلّ ما يلزم كي أحثّهم على التواصل.
تعتبر هادية منصور، المشرفة على المعلّمات في الجمعية أنّ كل واحد منّا لديه طرف توحّد. وعن نظام تطبيق العلاج مع الطفل الذي يعاني من طيف التوحّد تقول: التعاطي مع الطفل الذي يعاني من طيف التوحّد يجب أن يقوم على أساس علميّ سليم. وليس كل من يدّعي المعرفة في هذا المضمار يملك المعرفة والمقدرة على التعاطي. المشكلة تكمن في المجتمع، وإذا غصنا في التفاصيل سنرى أن كل شخص منّا لديه طرف توحّد طفيف، وكلّ واحد منا لديه مواقف غاضبة ورافضة وكلّنا نحتاج إلى علاج جذريّ وفعّال قائم على التوعية لطبيعة هذه الحالة. وكثرة الجمعيات لا تعني أن الإضاءة على هذا الجانب من حياتنا فعليّة وصحيحة.
وتوضح كل من هدى وميسم وشروق أنّ الهدف الأساس لهن، الوصول بالأطفال إلى برّ الأمان، وتتحدّث كل منهن عن حالة كلّ طفل وكيف أن لكلّ حالة خصوصيتها. وبالتالي يتطلب الأمر أسلوباً في التعاطي يتوافق مع خصوصية كل طفل على حدة.
تخبرنا تينا عن حادثة استفزّتها في هذا الإطار فتقول: تؤسفني كيفية تعاطي الناس مع الطفل المتوحّد، وأذكر مرّة أنّني كنت في أحد صالونات التجميل، فدخلت أمّ مع طفلتها التي تعاني من طيف التوحّد، فرفض صاحب الصالون أن يقص شعر الفتاة وحين خرجتا لحقت بهما وأخذتهما إلى صالون ثانٍ، وكانت الفتاة سعيدة جداً حين اهتمّ بها صاحب الصالون. فشعرتُ بالرضا كوني أدخلت الفرحة إلى قلبها. برأيي الخلل في المحيط لا في الطفل الذي يعاني من طيف التوحّد.
أما لونا التي تتفوّق على زميلاتها بالأقدمية والمعرفة، فتشير إلى ضرورة تفاعل الأهل مع الأطفال كي لا يذهب كلّ الجهد معهم سدى. فتقول: نحن نعمل مع الأطفال طوال السنة الدراسية، ونفرح حين يحرزون التقدّم. على سبيل المثال، أتانا أطفال لا يأكلون إلا صنفاً واحداً، واليوم هم يتقبّلون كل أنواع الطعام التي نحضرها لهم. وهناك أطفال كانوا يرفضون الجلوس، ومع المثابرة تمكنّا من تدريبهم على الجلوس والتفاعل والعمل في مختلف النشاطات. وما أتحدّث عنه جزء بسيط من سلسلة طويلة، لكن تبقى المشكلة في كيفية تعاطي الأهل مع أطفالهم، إذ يجب عليهم أن يتصرّفوا معهم بالأسلوب نفسه كي لا يذهب كل ما فعلناه معهم ولهم هباء.
جمعيات ولكن!
تنهي فاطمة بهجة دراستها في مجال علم النفس التوافقي للأطفال الذين لديهم حالات خاصة، وتؤكّد أنّها اختارت هذا الاختصاص عن قناعة تامة، فتقول: لديّ جارة عندها ثلاثة أطفال يعانون من الشلل الدماغي، وحالتهم حفزّتني لاختيار اختصاص يخوّلني التعاطي مع الأطفال المختلفين. وعملت في أكثر من جمعية ومركز، ولكن للأسف لمست حجم الاستهتار من قبل المعنيّين في هذه الجمعيات والمراكز، وحجم الظلم والضغط النفسي الذي يُمارس على أطفال لا ذنب لهم سوى أنهم مختلفون. المشكلة تبدأ من العائلة التي لديها طفل يعاني من طيف التوحّد والصعوبات وترفض المحاربة من أجله، وتتبعها المعالجة السيئة التي لا تستند إلى أيّ منطق علميّ في ظل غياب التوعية والتركيز على المتاجرة بهذه الحالات من قبل مراكز كثيرة تحمل راية إنسانية لا تمتّ إليها بِصلة.
لعلّ قصة لميس ترحيني تحمل في في طيّاتها الكثير من الصبر والمثابرة وهي الأمّ لطفل يعاني من الصعوبات التعليمية، والممرضة التي قرّرت أن تنضمّ إلى «الجميعة العلمية للتوحّد» كمعلّمة لتساعد طفلها وباقي الأطفال في الجمعية، فتقول: أنا في الصفّ لا أكون الأمّ، إنما المعلّمة التي يجب أن تمنح باقي الأطفال ما تمنحه لطفلها الذي لم أخجل منه وبه يوماً، إنما سعيت إلى فرضه على المجتمع بإصرار كي يتقبّله كما هو، وكلّي ثقة أنه سيتحسن. حتى في المنزل أسعى إلى تدريب أولادي على تقبّل أخيهم الذي رفضهم في بداية الأمر، لكنني جهدت لتغيير الوضع، وأظنّ أنني نجحت في مكان ما. هناك خيط رفيع يربط بين حالة ابني حسن وطيف التوحّد، وأنا تعلّقت بهذا الخيط كي أمنحه ما يلزم ليتمكن من التفاعل مع المحيط. كنت أصطحبه إلى الحضانة وأطلب من المسؤولين فيها السماح له بالتعاطي مع الأطفال ولو لساعة واحدة ومقابل بدل مالي، وحين أسير معه في الشارع وأصادف أطفالاً قد لا أعرفهم، ولكنّني كنت أجلس بينهم كي يدرك أنه عليهم تقبلهم. كما أنّي أسعى إلى جعله يستوعب أن هناك آخرين حوله وأنني لست ملكاً له دون سواه. من جهتي، لا تعنيني نظرة المجتمع إلى ابني وأرى أنه متميز ولن أتركه على حاله ومن واجبي الأخذ بيده كي يصل إلى برّ الأمان ويندمج مع مجتمعه.
التوحّد ليس مرضاً
التوحّد او الذاتوية Autism هو أحد الاضطرابات التابعة لمجموعة من اضطرابات التطوّر المسمّاة باللغة الطبية «اضطرابات في الطيف الذاتويّ»، ينتج عن خلل في وظائف الدماغ، ما يُحدث تأخّراً في النموّ المعرفي، وصعوبة في التواصل والتعامل مع الآخرين. وأسباب التوحّد حتى الآن غير معروفة، إلا أنّ الأبحاث تشير إلى وجود عوامل متعدّدة، للتعرّف أكثر إلى حالاته، وأعراضه، أسبابه، وسبل معرفة تشخيصه والكشف المبكر لدى الأطفال المصابين به وكيفية التعامل مع حالاته.
تطلعنا الدكتورة شفيقة منصور غربية على التعريف العلمي للتوحّد فتقول: هو اضطراب في النموّ ـ وليس مرضاً ـ يعيق الطفل عن التعبير والتواصل الاجتماعي مع محيطه، تظهر عوارضه في السنوات الثلاث الأولى.
والتوحّد درجات، وعوارضه قد أن تختلف من طفل إلى آخر، كذلك قد تتدرّج من الخفيف إلى الشديد.
وعن أبرز عوارض التوحّد تضيف غربية:
أبرز عوارض التوحّد قبل عمر ثلاث سنوات هي:
ـ صعوبة في التفاعل الاجتماعي: قد تكون استجابته أقل للإشارات الاجتماعية مثل الابتسامة أو التواصل النظري.
ـ صعوبة في التواصل مع الآخرين: قد يكون تطوّر اللغة بطيئاً، ويكون الانتباه والتركيز لمدّة قصيرة.
ـ صعوبة أو خلل في تطوّر اللعب والمخيّلة: هناك نقص في اللعب التلقائيّ أو الابتكاري.
ـ اضطراب في السلوك وحركات تكرارية: قد يكون نشيطاً أو متحرّكاً أكثر من المعتاد، أو تكون حركته أقل من المعتاد، مع وجود نوبات من السلوك غير السويّ، وقد يقوم بحركات نمطية متكرّرة بيديه وأجزاء من جسمه.
ـ خلل في الجهاز الحسّي ـ الحركي: إذ قد يكون حسّاساً أكثر من المعتاد للّمس، أو أن يكون أقلّ حساسية من المعتاد للألم، أو النظر، أو السمع، أو الشمّ.
كما هناك قائمة «chat» تستطيع الأم ملاحظة صعوبات قد يعاني منها طفلها في عمر 15 شهراً، ويجب في حال وجود هذه الصعوبات التوجّه إلى المركز المختصّ للتدخّل المبكر لولدها، ما يساهم في تطوّره والتخفيف من الصعوبات التي قد يعاني منها.
أسباب التوحّد حتّى الآن غير معروفة إلّا أنّ الأبحاث تشير إلى وجود عوامل متعدّدة أهمّها:
ـ اضطراب في الجهاز العصبي.
ـ عوامل جينية بنسبة 10 إلى 20 في المئة الأولاد لديهم استعداد جينيّ للإصابة باضطراب التوحّد .
ـ عوامل بيئية.
ـ التوحّد هو خلل عضويّ وليس نفسياً.
هناك وسائل عدّة تساعد في تحسين حالة الولد الذي يعاني من التوحّد، ومن أهمّها التدخل المبكر، حيث أثبتت الدراسات أنه كلّما تلقّى الطفل برامج التعليم المخصّصة مبكراً، كلّما كانت النتيجة المستقبلية أفضل.
إن التحليل السلوكي واللفظي «ABA/VB » يساعد الأولاد بطريقة فعالة في الاعتماد على النفس والدمج الفعال في المجتمع، إذ إنّه صُنّف ومنّذ 1981 من أفضل العلاجات والأكثر فعالية إزاء التوحّد.
وعن عدد حالات التوحّد في لبنان وأهمية الكشف المبكر أضافت غربية: للأسف، لا إحصاءات رسمية في لبنان عن عدد الأولاد الذين يعانون من التوحّد. لذلك يجب أن تكون هناك حملات توعية في هذا الإطار. وللأسف، أولاد كثيرون في لبنان يعانون من التوحّد، إمّا شُخِّصت حالاتهم بشكل خاطئ، أو لم يخضعوا للتشخيص على الاطلاق، ما يتسبب في ازدياد حالة الطفل سوءاً وبالتالي خسارة وقت ثمين في علاجه للوصول إلى مستقبل أفضل.
كما أنه من المهم جدّاً أن يكون المختصون حاصلين على ترخيص للتشخيص بالتوحّد قبل القيام بتشخيص أيّ طفل. إضافة إلى العمل المكثف في المدرسة نعمل على تدريب الأهل ليعملوا على تعميم المهارات التي اكتسبها أولادهم في محيط البيت والمجتمع، ويبقى الكشف المبكر هو الأهمّ في العلاج.