من أستانة إلى جنيف… الرهان على الكارثة!

محمد ح. الحاج

تجاوز المواطن السوري الانتظار على قارعة اسطنبول أو القاهرة أو موسكو والرياض مروراً بباريس، انتقل الاهتمام إلى لقاء أستانة مصحوباً بدقات القلوب الواجفة مما بعده وما قبل جنيف، بعد التجربة تأكد للجميع مواطنين ومسؤولين أنّ هدف المعارك وعمليات التخريب ومضاعفة الخسائر يختلف ما بين التفكير السطحي الضحل لأدوات هذه الحرب، وبين المخطِّط الأصيل الذي يصدر الأوامر لتأجيجها كلّ مرة قبل جنيف بقصد إرباك اللقاء إنْ لم يكن إفشاله تماماً، وضمان دوامة الملهاة الإنسانية على حساب الوطن السوري أرضاً وشعباً.

«نحن نعمل بأوامر جاءتنا من الخارج، الأرجح من الكيان الصهيوني» يعترف أسرى جبهة النصرة – وهم من يوجهوننا أين ومتى! هل هي تنسيقية المعارض الصهيوني كمال اللبواني تعمل من تل أبيب، أم تنسيقية خوان المسلمين؟

العمليات الأخيرة على أبواب دمشق، وبلدات شمال حماة أقرب إلى الانتحار الجماعي من عمليات محاولة السيطرة الدائمة التي تضمن تغيّر الموازين، والحقيقة أنّ هذه العمليات لم تكن بلا ثمن دفعته القوى المدافعة بمواجهة القادمين للانتحار، الحراك يتمّ استثماره على صعيدين، الأول يصبّ في خدمة عمليات شيطنة الدولة على صعيد الإعلام الخارجي، والآخر استمرار الفوضى وتوفير المزيد من الوقت والغطاء لإجراءات العدو الصهيوني على الساحة الداخلية الفلسطينية دون أن تكون الأدوات قادرة على التفكير واكتشاف المخطط – الكارثة.

لم يراهن العدو الصهيوني يوماً على قنابله النووية غير الفاعلة في محيطه، فهو لا يخطط للانتحار «طبقاً لخطة شمشون»، ولم يراهن على ذكاء متفوّق يتمتع به، بل هو راهن على غباء هذا المحيط وسطحيته وقدرته على التلاعب به وتوجيهه بمعونة دول الغرب.. هذا ما جاء في قول لمؤسس الكيان بن غوريون ، الخطة التي وضعتها الصهيونية ذات بعدين، البعد الأول الاستناد إلى قوة عظمى والسيطرة عليها من الداخل، البعد الآخر دراسة المحيط وإيجاد الأساليب الناجحة – المؤدّية إلى تفتيته، وقد حدّد قادة الصهيونية العالمية المحيط المستهدف بدول العراق الشام مصر، وذلك عن طريق إثارة الخلافات الدينية المذهبية لما لها من تأثير خصوصاً في حالة السيطرة الثقافية وتوظيف مراجع دينية عليا أو اختراق تنظيماتها، وعلى رأس هذه التنظيمات الإخوان المسلمين والوهابية السعودية رغم التناقض الحادّ بينهما، لكن ما يجمعهما بدا أنه الأقوى.

في جنيف لا وجود لشريك سوري بمواجهة الفريق الحكومي، بل أفرقاء يمثلون دول في الجوار أو بعيدة، ولكلّ منها مصالحها، ولأنّ التعليمات ليست موحدة، والغاية ليست مصلحة الشعب السوري كأولوية فإنّ ما يجري في جنيف من الرقم واحد إلى رقم بلا نهاية هو مجرد استهلاك للوقت، لم تتغيّر طروحات المعارضة المصرّة على تسلّم الحكم دون أن تكون مهيأة أو أن يكون لها قاعدة شعبية تقبل بها مهما بلغت نسبتها المئوية، الأطراف الممثلة للمعارضة في جنيف ليست صاحبة الكلمة في التأثير على القيادات المقاتلة للعصابات في الساحة الداخلية، بل هي مجرد مستثمر يتمّ إبلاغه بمطالب مشغليه استناداً إلى بعض التبدّلات الآنية الظرفية غير الثابتة على الأرض، ومنها للمثال التهويل الإعلامي الذي ادّعى دخول قوات المعارضات أبواب العاصمة، بينما على أرض الواقع لم يتجاوز التغيير مئات الأمتار القليلة وإلى زمن محدود جرى بعده إبادتها ومطاردة فلولها إلى داخل الخطوط السابقة، كذلك الأمر ما يحصل في ريف حماه وبعض القرى والبلدات المحاذية لحدود ريف إدلب بعد الانقلاب على التفاهمات والضمانات وخرق الهدنة بدفع من طرف ضامن لها!

المواطن السوري بحسّه المرهف أصبح الأكثر قدرة على استشراف ما سيحصل والاستعداد له وتنبيه المحيط المستهدف للحدّ من الخسائر البشرية في الجبهة الداخلية المتراصة بطبيعة الحال، وهذا ما حصل، والأهمّ أنّ الغاية من هذا الخرق للهدنة لم تتحقق، فلا المناطق المستهدفة اجتاحها الذعر، ولم تحصل الفوضى، بل كان الثبات والمعالجة العاقلة بمواجهة جنون الانتحار لقاء فيض المال الوارد من الخارج وخصوصا صناديق الخليج التي لن يطول بها الأمر لتصبح خاوية.

منذ حنيف 2 مروراً بكلّ اللقاءات الدولية لمعالجة الأزمة السورية، تكرّرت قبل كلّ منها حالات التوتير والهجومات على المناطق الآمنة والتفجيرات التي راح ضحيتها مدنيين أبرياء، إنّ أكبر القادة العسكريين في العالم اعترف بعجزه عن مواجهة باحث عن الموت، إذ لا يمكن تخليصه من تفكيره ورغبته في قتل الآخرين عن طريق تفجير نفسه خصوصاً أنّ هذا الباحث عن الموت يلجأ إلى التخفي وارتداء أزياء لا تثير الشكوك، من رجل عجوز، إلى عاجز، إلى امرأة حامل إلخ… وبعضهم استخدم الأطفال بعد تفخيخهم، هذا الفعل أبعد ما يكون عن ثورات التحرّر والتحرير ولا البحث عن الحرية والاستقلال، الدول المشاركة في العدوان ما زالت مصرة على تحقيق أهدافها أو بعض هذه الأهداف على الأقلّ طالما استمرت قدرتها على توظيف الأدوات في الخارج أو الداخل، المقيمون في الخارج كواجهة تدّعي تمثيل الشعب السوري سياسياً، والعصابات الداخلية على أنهم «ثوار حقيقيون» يلقون الدعم الإنساني الخارجي وهو في حقيقته أبعد ما يكون عن الإنسانية التي تستهدف عملياتها البشر والشجر والحجر في دولة كانت الأفضل في المنطقة، وإذا كان من المنطقي توجيه اللوم للعصابات المسلحة، فإنّ هذا اللوم يجب أن يكون موجهاً قبل ذلك إلى دول الرعاية وأخصّها تركيا الضامنة لاتفاقات مع الجانبين الروسي والإيراني، وهي على الأغلب من قامت بتوجيه عصابات النصرة وأحرار الشام وغيرها للانقضاض على الهدنة توظيفاً لمنجزات ما قد يحصل من تقدّم في خدمة ممثليها في جنيف، وليس حقاً أنها لم تنسّق مع الجانب الصهيوني المستفيد الرئيس وكذلك مع الحلفاء السابقين في الخليج باعتبار أنّ الوصول إلى أيّ نوع من السلام أو الاستقرار في المنطقة المشرقية الشام والعراق سيشكل بداية متاعبهم التي لن تقف عند حدود وربما تكون بداية النهاية لأنظمة قائمة على التآمر ضدّ الجوار واستثمار فائض أموالها في تخريبه وإنْ كانت تدّعي أخوته أو الارتباط المصيري بشعوبه وأنها تستهدف فقط أنظمته التي لا تتفق معها في السياسة.

جنيف والمبعوث الدولي دي ميستورا، توأم لا يجب أن ينفصلا لزوم استمرارية الملهاة، وإذا كان من تقدّم أو تفاهمات يجري الإعلان عنها، فهي حاجة آنية إعلامية يمكن الانقلاب عليها وتدبير ما يبرّر نقضها وهو ما جرى في السابق وأكثر من مرة سواء في عمليات التوافق السياسي المرحلي، أو اتفاقيات الهدنة التي لا بدّ تمهّد للتفاهم عن طريق وقف نزيف الدم، ومحاولة إيجاد نقاط تقاطع بين الأطراف كحلول وسط ومرحلية برعاية دولية، لكن، حتى هذه ليست مقبولة لدى الجانب الآخر، بالتحديد لدى جزء من المعارضات، معارضة الرياض مثلاً، ولأنّ الرفض من قبل المشغّل الراعي المستثمر السعودي ومن على نهجه من الشركاء الآخرين، التسويات ليست التوصيف المناسب، بل الاتفاق المبدئي على الوصول إلى التسويات يبقى مرهوناً بالقرار والإرادة الغريبة غير السورية.

من المرجح أنّ الوفد السوري يدرك هذا الواقع فلا يراهن على نتائج لقاء قائم أو حتى ما بعده، بل هو يحاول سحب الذرائع والبساط من تحت أرجل المعارضات التي لا شك ترفض بالمطلق العودة إلى الشعب والقبول بنتائج انتخابات تجري تحت الرقابة الدولية، وحتى أركان المعارضات المتناحرة هؤلاء لديهم القناعة التامة بأنهم غير مقبولين على الساحة الداخلية وأنّ أياً منهم لن ينال ثقة شعبية تؤهّله لموقع رئيس بلدية أو عضو في هيئة اختيارية لقرية ينتمي اليها بالأصل، إنما ينتظرون أن تفرضهم القوى الخارجية على شعبنا بمرتبة عملاء من الدرجة الممتازة!

الطرف الأسوأ، والأكثر نذالة في التعامل مع القضية السورية هو العدو الأزلي التركي من حيث أطماعه التي لم تتوقف، واستمرار تواطئه مع العدو الصهيوني، هذا النظام يلجأ إلى الخديعة والكذب، يتعهّد وينقلب، يضمن وينسحب، يعلن الموافقة على إغلاق الحدود، بينما تبقى هذه مفتوحة لمرور كلّ أنواع الدعم اللوجستي، وحتى عبر البوابات الرسمية المعروف أنها تحت الرقابة المحلية والدولية، ما يدفع إلى العجب والتساؤل هو الموقف الروسي الصامت على السلوك التركي ومعه أيضاً الانتشار الأميركي واحتلال مواقع سورية عنوة تحت شعار مساعدة ودعم قوات محلية سواء كانت كردية أو مختلطة يشكلها عملاء يقبلون العمل في ظلّ العلم الأميركي في ظروف تمثل تكاثر الجزارين بانتظار وقوع الفريسة.

لا رهان شعبياً على جنيف ولا تفاؤل على أيّ صعيد حتى في أوساط الوفد الحكومي الرسمي، وما نظرت مرة في وجه الدكتور الجعفري إلا وأدركت مدى معاناته وانقباضه وربما خيبته المريرة التي يكتمها بعنفوان المقاتل مما يلاقيه في عمله بمواجهة أدوات العدوان الذي لا نرى بارقة أمل في انحساره قريباً عن أمتنا وشعبنا الصامد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى