«محارب النور»… كتاب عن فلسفة النفس واختبار الذات لباولو كويلو

وجيهة عبد الرحمن

فلسفة باولو كويلو تجاوزت تجسيدها في رواياته التي لا تخلو واحدة منها من الغوص في أعماق النفس البشرية لاكتشاف مَواطن الخير والشرّ، وقد ظهر ذلك جلياً في روايتيه «الشيطان والآنسة بريم» و«بريدا» وغيرهما من خلال حبكة تفضي في نهاية المطاف إلى الإقرار بأنَّ النفس الإنسانية هشَّة، إذ يمكن التأثير فيها من خلال اكتشاف نقاط الضعف، ويطلب من خلال ذلك إلى التسلح بالإيمان والإرادة الحرَّة في تخطِّي الامتحان في دفعه إلى سلوك سبيل الخير أو سبيل الشرّ. كما أنَّ لكلِّ سبيل معطياته وحيثياته التي تتبلور في ذات الشخصية لتدفعه إلى اتخاذ قراره في النهاية.

ولكن باولو كويلو تجاوز ذلك في محارب النور، إذ إن بطله هذه المرَّة على المحك في اكتشاف ذاته المنغمسة مع مظاهر الطبيعة بدمجه بالطبيعة الحيَّة ليشعر بذاته من خلال شعوره بخفايا الكون من حوله، والأصوات التي يصدرها الكون كلٌّ من حيث تواجده في مكانه الطبيعي.

المرأة الجميلة ذات الحجاب إحدى أهمّ شخصيات القصّة الخيالية التي قدَّم بها كويلو كتابه «محارب النور»، ما أن تلتقي بالطفل على شاطئ البحر، حتى تطلب منه أن ينظر إلى الكنيسة ليسمع صوت الأجراس الصادرة عن قعر البحر على أنه كان هناك ذات زمن بعيد جزيرة عليها كنيسة وقد غرقت الجزيرة فغرقت معها الكنيسة، ولكن صوت أجراسها لم يسكت.

الطفل، رغم المواظبة على ارتياد الشاطئ كل يوم ولفترات طويلة، إلا أنه لا يسمع صوت الأجراس.

تمضي الشهور وهو يصيخ السمع إلى قاع البحر، ربما يسمع ما يشير إلى أنَّه كان هناك ذات زمن بعيد كنيسة وقد دفنت تحت قاع البحر، يسأل الصيادين عن تلك الأجراس، فيخبرونه بأنهم يسمعون تلك الأصوات، ولكنه لم يكن يسمع، إذ لا بد أن هناك ما أراد باولو كويلو قوله من عدم سماع الطفل صوت الأجراس.

بعد مضيّ أشهر ينسى المرأة، وينهمك في المضي قدما بارتياد الشاطئ لسماع تلك الأصوات. ولكنه يكتشف أشياء كونية أخرى لم يكن يعيرها اهتماماً أو انتباهاً، يتعرف إلى صوت البحر والنوارس وأزيز النحل وصوت سعف النخيل وغيرها من الأصوات النابعة من سكون الكون على شاطئ البحر، يتعرض إلى سخرية أقرانه من الأطفال على أنه فاشل ولم يكمل تعليمه. وبعد فترة يطلب الصيادون منه العودة إلى منزله ليكمل حياته كطفل، وأن هذا من شأن الكبار. ولأنه لم يكتشف ما طلبته منه المرأة الحسناء، يعود إلى ساحاته وميادينه وحياته على ان يصبح في المستقبل صياداً، وذلك بقرار ورغبة منه على أن يصبح صياداً لأنَّه أحب هذه المهنة التي تقرِّبه من نفسه وتعرِّفه إلى ذاته من خلال صداقة الصياد الحميمة مع البحر.

بعد مضيّ زمن طويل، يأتي إلى الشاطئ فيلتقي بالمرأة ذاتها، لا تزال ترتدي الحجاب، وبالجمال نفسه، وكأن الزمن لم يمض بها. كانت تنتظره على الرمل، ما أن بدأت تتكلم معه، حتى تسلّمه دفتراً أزرق وتطلب منه أن يكتب: «اُكتب، فارس النور يحترم نظرة الطفل، لأن الأطفال يعرفون كيف ينظرون إلى العالم من دون كآبة. وحين يرغب في معرفة إن كان شخص ما جديراً بثقته فإنه ينظر إليه بعينَي طفل».

ـ ومن هو فارس النور؟

تجيبه: «إنه القادر على فهم معجزة الكون والحياة، القادر على خوض معركته حتى النهاية من أجل ما يؤمن به، والقدرة على سماع صوت الأجراس التي يبثّها البحر من أعماقه.

ثم أنه بإمكان كل إنسان أن يكون فارس النور وأن يشهد ذلك في نفسه.

بعدها ألحَّت عليه أن يكتب في الدفتر الأزرق.

إذاً، حينما أمضى الطفل سنين طويلة من عمره يجلس إلى شاطئ البحر، ليسمع صوت أجراس الكنيسة المغمورة مع الجزيرة في قاع البحر، تبيَّن أنَّهُ لم يسمع صوت الأجراس التي كانت تسمعها الفتاة، لكنَّه اكتشف أصوات أخرى معاصرة له، كصوت البحر وصوت النوارس وموجات البحر، كلُّ ذلك جعله يعود إلى ذاته ليكتشف إنَّه هو الآخر لديه صوت ولكنَّه حبيس في قفص صدره.

المفارقة الجميلة هي أن تلك الأصوات جعلته يسمع صوته، الأمر الذي دفعه إلى المواظبة على ارتياد المكان، رغبة منه في اكتشاف ما فاته والاستمتاع بتلك الأصوات الحيَّة المنبعثة من الكون من حوله، صوت البحر… .

بعد شعوره بالامتلاء يقرّر بناءً على طلب الصيادين منه أن يعود إلى ملاعب الطفولة التي هجرها طويلاً بحثاً عن ذاته، لكنَّنا نقرأ بين السطور أنَّه كان تواقاً إلى طفولته، رغم اعتياده المكان أيضاً. لذا، قرّر أن يعمل صياداً بعد أن يكبر تحديد خياراته المستقبلية وعاد إلى طفولته، ثمَّ شعر بالسعادة لأنَّه ما زال حياً ولم يضيِّع وقته سدى، وتعلَّم كيف يتأمل الطبيعة.

هنا، نجد أنَّ باولو كويلو عمل على دمج العالمين الطبيعة، العالم الداخلي للنفس البشرية معاً من خلال عودة الطفل إلى عالمه، وتعلمه تأمل الطبيعة التي وحدهم الكبار احتكروا تلك الحالة.

ولكن هل ينتهي الأمر هنا بمجرد أنَّه تعلم كيف يتأمل ما حوله والكون المعجز، الكاتب بعد ذلك ومن خلال الحبكة والسرد يطلب منه أن يدوِّن ما تعلمه في كتاب أزرق مليء بصفحات بيضاء اللون الأزرق وذلك من خلال رؤية العالم بعيني طفل، على أن الطفل ينظر إلى العالم من دون مرارة.

ومحارب النور هو ذلك الطفل الذي هجر حياته وعالمه من أجل ما آمن به، إذاً فمحارب النور هو شخصٌ قادرٌ على فهم معجزة الحياة والاستمرار في الحرب معركة الحياة حتى الرمق الأخير من أجل ما آمن به.

نماذج سلوكية لمحارب النور:

«عانق مشاعره مركزاً على التمتُّع بها، يعرف أنَّه ليس ضرورياً إعلان سعادته بالنصر، فذلك جزء من الحياة يجلب المتعة إلى كل من يشارك فيها».

«حين يدخل قتالاً، لا يملك سوى حماسته والحركات والضربات التي تعلمها خلال تدريبه، وكلَّما تقدم القتال، اكتشف أن الحماسة والتدريب ليسا كافيين للنصر، فالاعتبار الأساسي للتجربة…».

«ثم أنَّ محارب النور في كلِّ مراحله متيقِّن بأنَّه ليس كاملاً، لذا ينتهز أي فرصة لتقويم نفسه، حتى أنه يقاتل أحياناً من يحبهم، وقبل البدء بأيّ معركة يسأل نفسه لأي حدٍّ تطورت قدراتي؟».

يعني أن باولو كويلو عن طريق مبادئه وقيمه في «محارب النور»، يحاول إيصال أفكاره التي لطالما آمن بها، والتي هي حصيلة خبرات وتجارب طويلة.

من خلال قراءة ما جاء عن «محارب النور» في الكتاب الأزرق، نقرأ الكثير من صفات الطفولة البريئة العفوية التي لا تعتمد في أحكامها على الأدلة والبراهين أو دراسة مسبقة، كما أنّ هناك مزيجاً من صفات الإنسان البالغ الراشد الذي يعود في صنع قراراته إلى مرجعية فلسفية أو نفسية أو اجتماعية أو دينية، وفي كلا الحالين محارب النور بطلٌ شجاع في ساحة المعركة، لن يخرج منها إلا منتصراً نتيجة خبراته الحياتية واختباره جميع مراحل الحياة، متخطيّاً الصعوبات والتحدّيات الكبرى.

«محارب النور» كتاب عن فلسفة النفس واختبار الذات، وكيفية التواصل الإنساني والذاتي مع الله والآخر. باختصار يُظهر الكاتب فيه تصوّفه وطريقة تواصله مع الله واندماجه مع الطبيعة الصامتة من حوله.

دلالة اللون الأزرق

رغم صعوبة تحديد الدلالات والتأثيرات النفسية للألوان على النفس البشرية، إلا أنّ الإنسان بالعلم والتجربة واستناداً إلى الفطرة، استطاع معرفة دورها السيكولوجي وذلك من خلال التجارب الشخصية التي أجراها العلماء لوضع نظرياتهم.

انطلاقاً من تلك النظريات عرف العلماء أنّ لكلّ لون تأثيراته الفطرية على الإنسان، إذ إنّها تؤثر في النفس فتحدث فيها إحساسات متنوعة ومختلفة توحي بأفكار تريحنا وتطمئننا وأخرى تؤدي بنا إلى حالة من الاضطراب والتوتر.

فيزيائياً: اللون هو شكل من أشكال الضوء وقد أثبت ذلك العالم العظيم اسحق نيوتن حين قام بتسليط حزمة من الضوء على منشور زجاجي، فقام المنشور بتحليل الحزمة إلى ألوان متعدّدة ذات دلالات.

وبالنظر في اللون الأزرق أو غيره من الألوان، فقد كانت هناك وجهات نظر مختلفة بالاستناد إلى تحليلات مختلفة، فكان الأزرق لون الإدراك والوعي الذي يستيقظ، واكتشاف ثروات داخلية لم تكن في الحسبان. والحلم الذي يحتوي الأزرق يدل على تجربة إيجابية عاشها الإنسان، وهو يمثل التقوى والتقرّب من الله والتأمّل. أما مدرسة فرويد ويونغ للتحليل النفسي فقد أولت اهتماماً خاصاً للدور الذي تلعبه الألوان في كشف اللاوعي لدى الإنسان، مثل الأحلام والخيالات الجامحة، فإذا كان هذا هو جوهر اللون الأزرق أو الدفتر الأزرق في محارب النور، فإن باولو كويلو انطلق من ذلك في دعوة الطفل إلى التأمّل في خفايا الكون والطبيعة وإطلاق العنان لخيالاته الجامحة لتوصله إلى حيث يتعرّف إلى ذاته أولاً ويحدّد رغباته ثمّ التعرّف إلى الكون المحيط به، لكي يحدّد بذلك مساره في الحياة.

على أنّ اللون الأزرق هو أيضاً لون السعادة، ويعكس الثقة بالنفس والبراءة وهو رمز للعقل والحكمة، وإنّ محبي هذا اللون يحترمون الصداقات والعلاقات الإنسانية، وربّما هم أناس يعرفونه بالمقابل معنى الاكتئاب.

كاتبة سورية مقيمة في ألمانيا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى