السياسات العامة لدورة حياة جديدة.. هل تأتي حكومة تتولاها؟

لور أبي خليل

إنّ السياسات العامة، تظهر في شكل برنامج عمل يشمل المؤسسات العامة. وتكون الحكومة قد قرّرت القيام بهذا البرنامج. هذا التعريف يخلق الفصل بين الخاص والعام. لكن إدراج الجهات الخاصة هو أمر أساسي في عملية صنع القرار لأنّ السياسات العامة عبارة عن مجموعة من القرارات تتخذها الدولة، ويفترض أن تشارك في رسمها القوى الفاعلة في المجتمع. نشأت السياسات العامة في خمسينيات القرن العشرين وارتبطت مع ظهور الدولة الرعائية التي فرضت على الحكومات تقديم العديد من الخدمات بهدف ارتقاء وتحسّب آلية صانع القرار والسعي لترشيد الموارد ولتحقيق التنمية المستدامة يتمّ ذلك لإرساء معاييرالحكم الرشيد. تظهر الخصائص المتعلقة بالسياسات العامة كاستراتيجيات تنفيذية تسمح للفاعل أن يتحرّك ضمن معايير واضحة ومحدّدة، إذ يفترض بها أن تكون واقعية أيّ قابلة للتنفيذ، وذلك بحسب الموارد التي تملكها الدولة يكون ذلك هادفاً لحلّ المشاكل الاجتماعية بقرار يصدر عن السلطة التنفيذية إذ يدخل ضمن الأجندة العامة ويكون مسبقاً قد حاز على اهتمام فاعليات المجتمع المدني من نقابات ومؤسسات وأحزاب وجماعات ضغط يفترض بها أن تتحرك بشكل فاعل للتطوير والتنمية مما يسمح بتعاطف المواطنين معها، لأنها تهدف للمصلحة العامة.

هناك ثلاثة أنواع من السياسات العامة:

النوع الأول المعروف بالسياسات التوزيعية. وهي التي تقوم من خلالها الدولة بتوزيع المزايا على المواطنين وليس على أصحاب النفوذ. والنوع الثاني سياسات إعادة التوزيع. وهنا تقوم الدولة بإعادة توزيع الموارد التي اقتطعتها من المواطنين عبر رسم سياساتها الضرائبية على أصحاب المداخيل المرتفعة لتمويل أصحاب المداخيل المحدودة. أما النوع الثالث فهو السياسات التنظيمية. وهنا تقوم الدولة بسنّ قوانين لتنظيم وتفعيل القطاعات الاقتصادية وللحدّ من الظواهر الانحرافية ولا يُفترض أن تكون هذه القوانين جائرة بحق المشاريع الصغيرة.

ما الذي يجب أن يُطرح للبدء برسم السياسات العامة التي غابت كلياً في دور الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ الاستقلال؟

إنّ غياب تطبيق السياسات العامة في لبنان يبدأ بعدم التحديد الواضح للأهداف الموجب تحقيقها من قبل الحكومة، والى عدم مشاركة المجتمع المدني في صياغة السياسات العامة، إذ إنّ المركزية الإدارية مترسّخة في صناعة القرار الإداري، مصحوباً هذا الأمر بعدم توفير المخصصات المالية اللازمة وفي تضخّم حجم الجهاز الإداري وعدم استقرار الحكومات وإرساء ثقافة التسيّب والإهمال، مرفقاً بعدم فعالية نظم الرقابة.

تأخذ السياسات العامة دورة حياة كاملة تبدأ بالمبادأة بطرح قائمة الموضوعات والمشكلات والقضايا العامة التي تؤرق المواطنين. ولأول مرة في خطاب قَسَم رئيس للجمهورية في لبنان لحظت ظاهرة الفساد كسلّم أولوية يفترض البدء بدراستها ورسم استراتيجية خاصة بها، لأنها المشكلة الأخطر على الحياة العامة وعلى المواطن، فإنّ طلب الرئيس عون تعيين وزير خاص لدراسة حلول لهذه الآفة يُعتبر مبادرة أولى في البدء برسم السياسات العامة في لبنان، لأنه من خلال هذه الظاهرة الاجتماعية الاقتصادية – السياسية – الثقافية نستطيع أن ندخل إلى الظواهر الأخرى كافة لوضعها في الأجندة العامة إذ انّ رسم السياسات يبدأ عند إدراج المشكلة في الأجندة العامة، وإلا تبقى الظواهر في مرحلة الدراسة، فبوجود حلول لها نضع الركيزة الأولى لإنشاء دولة مدنية معيارها الكفاءة والجدارة. والمرحلة التالية هي مرحلة تحديد الأولويات أيّ مدى إلحاح المشكلة على سلّم الأولويات فقد تطرح قضيتان في التوقيت ذاته. على سبيل المثال قضية حقوق المرأة التي أعطاها الرئيس ميشال عون أهمية بالغة عندما طلب إدخال وزارة دولة لشؤون المرأة في حكومة عهده وقضية تعديل قانون الانتخاب. هاتان المشكلتان تحتاجان إلى سرعة في التعامل معهما، لأنّ المرأة تشكّل نصف المجتمع، ولأنّ قانون الانتخاب يساعد في تفعيل دور الدولة الرعائية. فهنا يتمّ تناول القضايا وفقاً للمعيار الزمني. يرفق هذا المعيار بتوافر التمويل اللازم لرسم السياسات المناسبة. ننتقل من ثم إلى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة صياغة السياسات. يتمّ النقاش هنا حول طبيعة المشكلة وحدودها وفحص القوى والفاعلين الرئيسيين الذين يُفترض بهم المشاركة في صناعة القرار والشكل الذي سوف تُصاغ به السياسة المناسبة ووسائل التنفيذ الملائمة فيدخل دور محلل السياسات الذي يطرح أفكاره ومنظومته القيمية والذي يقوم بإعداد أوراق عمل لمتّخذي السياسات أيّ الوزراء المختصين الذين يمكن أن لا يكونوا ملمّين ومتخصصين في رسم السياسات. وهذا طبعاً يظهر في العديد من الحكومات المتعاقبة في لبنان، لأنها ليست حكومات تكنوقراط. فننتقل بعدئذ الى المرحلة الرابعة، وهي مرحلة اتخاذ القرار إذ يفترض على الفاعلين الرسميين اتخاذ القرارات المناسبة والتي تتوافق بحسب المصلحة العامة لنصل في هذه الدورة السياسية الى المرحلة ما قبل الأخيرة المعروفة بمرحلة تنفيذ السياسات، فندخل الى الواقع عبر الإجراءات التنفيذية الهادفة لإخراح السياسة العامة إلى حيّز الواقع العملي. وفي هذه المرحلة نستطيع أن نقول إنّ تنفيذ السياسات العامة هو الدور التي يفترض أن تقوم به السلطة التنفيذية. وفي المرحلة الأخيرة تجب متابعة تنفيذ هذه السياسات وتقويمها من قبل الجهاز الإداري أو البيروقراطية الحكومية، فتبدأ عندئذ دورة حياة جديدة لمرحلة جديدة لإرساء معايير جديدة.

وهنا أطرح سؤالاً لصناع القرار في لبنان: هل ستأتي حكومة تقوم بهذا الدور؟ أضع هذا السؤال في يد رئيس الجمهورية الذي وضع في سلّم أولوياته محاربة الفساد.

دكتورة في العلوم السياسية والإدارية

باحثة وخبيرة في شؤون التنمية الاجتماعية ومكافحة الفساد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى