هل ينقذ العقلاء لبنان أم… إلى الحريق العربي سرّ؟

العميد د. أمين محمد حطيط

في مثل هذا اليوم منذ 42 عاماً أطلق حزب «الكتائب اللبنانية» النار على حافلة تقل فلسطينيين من بيروت الى مخيم تل الزعتر، ما تسبّب بقتل وجرح العديد من ركابها وسالت دماؤهم في عين الرمانة لتكون صاعقاً يفجّر الحرب في لبنان تحت عناوين وتسميات مختلفة، ومن أجل أهداف ومقاصد متعدّدة منها الظاهر المعلن ومنها الخفيّ المضمَر، حرب تخللها عدوانان «إسرائيليان» على لبنان، وصلت «إسرائيل» في الثاني الى بيروت ونصّبت بشير ثم شقيقه أمين الجميل رئيساً للجمهورية، ولكن الحرب لم تنته الا باتفاق الطائف الذي أعاد توزيع الحصص الطائفية في لبنان وأخذ من المسيحيين ما يعادل ثلث أو أكثر ما كانوا يستأثرون به من امتيازات الحكم في لبنان.

واليوم وفي ظلّ انقسام داخلي عمودي وحادّ، وفي ظلّ الرفض المتبادل للآخر في لبنان، يُطرح مجدّداً مصير الحكم في لبنان من باب أزمة قانون الانتخاب، حيث يتمسّك كلّ فريق بصيغة القانون الذي يرى فيها جسر عبور إلى حكم لبنان بما يناسب مصالحه، حتى ولو كانت هذه المصالح على حساب الوحدة الوطنية أو العدالة أو قواعد الديمقراطية أو كما يردّدون «سلامة التمثيل الشعبي وصحته» إلخ…

ففي القواعد الديمقراطية الحقة، وفي الدول التي تعتمد النظام الديمقراطي يكون من البديهي اعتماد ما يحقق المساواة بين المواطنين بخاصة في حق الانتخاب، ويكون لديهم قانون انتخاب يقوم على معايير واحدة تعتمد على أساس المواطنة. ومن الرائج اليوم أن يعتمد نظام النسبية على أساس الدائرة الوطنية الواحدة حيث تعكس نتيجة الانتخابات حقيقة ما يقوم عليه التركيب الاجتماعي السياسي، فلا يُلغى أحد ولا يُهمّش أحد ولا تتشكّل ديكتاتورية الأكثرية التي يدفع إليها النظام الانتخابي على الأساس الأكثري، سواء في ذلك ديكتاتورية على أساس وطني أو طائفي، لأن ديكتاتورية داخل الطوائف أمرّ وأدهى من الدكتاتورية الأولى، وتشكُّل حالة أمراء الطوائف المؤبّدين في السلطة هو أكبر طعن للديمقراطية ولمبدأ تداول السلطة.

أما في لبنان الذي يعتبر واقعه شذوذاً على القواعد المألوفة، فإن كل فريق يريد أن يوسع في حالات الشذوذ والتفسير البعيد عن القواعد حتى ينال أكبر قدر من الحصص على حساب الآخرين حتى ولو كانت هذه الحصة المبتغاة سبباً أو عاملاً للمساهمة في تشكّل حالة عدم الاستقرار المشوب بالظلم، أو كانت عاملاً مساعداً أوأساسياً في انفجار الوضع الداخلي كلياً.

في اجتماعات مدينة الطائف ومن أجل العدالة معطوفة على الطمأنينة اعتمدت المناصفة في التمثيل بين المسلمين والمسيحيين، ليكون في هذا الحلّ قدر من الطمأنينة للمسيحيين ومنع تهميشهم في السلطة، ولكن أرفق هذا الحلّ بضابطين اثنين نصّ عليهما الطائف بقراراته او بأسبابه الموجبة او بما تسرّب من محاضره: الأول أن يكون التدبير موقتاً يُعمل به في الفترة الانتقالية اللازمة للعبور من الحالة الطائفية الى الحالة الوطنية، والثاني أن يتمّ الانتخاب بالدوائر الكبرى وأسميت المحافظات، لتكون منطلقاً للانصهار الوطني عندما تعتمد النسبية فيها أساساً لنظام الانتخاب. وبالتالي فإن اعتماد المناصفة في التمثيل المسيحي الإسلامي رغم التفاوت في العدد النسبة اليوم تقارب نسبة 1 3 لصالح المسلمين كان مشروطاً بالضوابط أعلاه، ما يعني أن العمل بالتدبير من دون ضوابطه يُعدم مشروعيته ويعيد الطرح الى نقطة الصفر بحثاً عن العدالة.

والأدهى مما ذُكر أن يتّجه البعض ليس الى إهمال الضوابط فقط بل والعمل بما يعاكسها، والسير باتجاه تعميق الحالة الطائفية والمحاصصة المذهبية، وإقامة السدود المانعة أمام أي مسعى أو محاولة لتطبيق الدستور الذي ينص على ان الطائفية حالة مؤقتة والحل النهائي هو إلغاء الطائفية السياسية. وفي هذا النطاق نسجّل ملاحظات هامة على ما يسعى اليه البعض الآن، حيث نرى فيه انتهاكاً للدستور وانتهاكاً لروح ميثاق الطائف ومقاصده وترسيخاً للطائفية وتطويراً لها باتجاه إقامة فيدرالية طائفية بشكل واقعي على أنقاض الدولة الوطنية التي ينص عليها الدستور وأكدتها وثيقة الاتفاق الوطني في الطائف.

وأبدأ في ما أسمي «قانون الانتخاب الارثوذكسي»، وهو الذي يقوم على قاعدة طائفية ليس فيها أي اتصال بمنطق الوحدة الوطنية أو الشراكة في المواطنة، قاعدة تُملي بأن تنتخب كلّ طائفة ممثليها، ويكون مجلس النواب مجلس ممثلي الطوائف والمذاهب وليس ممثلي الشعب اللبناني. وفي هذا خرق واضح للنص الدستوري الذي يقول إن «النائب يمثل الأمة جمعاء». ومن جهة أخرى يشكل المشروع خرقاً لقواعد العدالة، حيث إن رُبع الشعب تقريباً سيمثل بنصف عدد المجلس النيابي في حين الـ 3 4 سيمثَّلون بالنصف الآخر من دون أن يكون لهم رأي فيه. وهنا انتهاك لروح الطائف الذي أجاز هذا مع وضع ضابط له يتمثل بمساهمة الفريق المسلم بانتخاب النواب المسيحيين عبر اعتماد الدائرة الكبرى.

ونأتي إلى النظام الانتخابي على درجتين: درجة أولى تُسمّى «التأهيل الطائفي» أو المذهبي والدرجة الثانية «الانتخاب الوطني» للاختيار بين الفائزين الأول في الدرجة التأهيلية الطائفية. ويكون هذا الحلّ بمثابة إلباس القانون الأرثوذكسي قناعاً يُخفي بشاعته ومخالفته الفظة للدستور، ولكن في العمق نصل إلى النتيجة ذاتها. فعندما تحدد الطائفة أو المذهب الأشخاص الذين يمكن أن يكون من بينهم نوابها، ولا يبقى في المرحلة الثانية الا المصادقة على اختيارها وإعطاء البصمة الطائفية الصفة الوطنية، أي تكون المرحلة الثانية عبارة عن منح براءة ذمة وطنية لحالة طائفية، ويكون نظام التأهيل الطائفي في العمق أسوأ من النظام الأرثوذكسي، بسبب القناع الوطني الذي يخفي به وجهه الطائفي المقيت.

ونصل إلى النظام المختلط الذي يجمع بين النظام النسبي والنظام الأكثري، ونرى فيه هرطقة واستخفافاً بالدستور والعدالة والمصلحة الوطنية أيضاً. لأنه يبدأ بخرق مبدأ وحدة المعايير وعمومية التشريع وهو القاعدة التي تُرسى عليها عملية التشريع أصلاً ما يفقده أي مشروعية ويُغنينا عن مناقشة عيوبه الأخرى.

في ظل هذا الواقع لا يبقى أمام اللبنانيين إلا اعتماد نظام انتخاب على أساس وطني يعتمد لبنان كله دائرة واحدة ويطبق النسبية الشاملة، لأنه النظام الوحيد الذي يلتزم بنص الدستور وروح اتفاق الطائف ومبادئ العدالة وقواعد التشريع الصحيح. وهنا تكون المناصفة التي تعتمد وبشكل مؤقت جسراً لتلاقي اللبنانيين وإنتاج الحالة الوطنية التي منها يعبر الى دولة مدنية على أساس المواطنة وتسقط الدولة الطائفية القائمة على أساس المحاصصة الظالمة. ومع انتخاب هذا المجلس وفي السنة الأولى لانتخابه يطبَّق نص المادة 22 من الدستور ويصار الى انتخاب مجلس الشيوخ الذي يرعى حقوق الطوائف في الوجود والحقوق العقائدية من دون أن يكون له شأن يتعدّى المسائل الوجودية والمصيرية للطوائف.

وفي الذكرى 42 لـ 13 نيسان وما جرّت إليه من مأساة وطنية لا زالت ندوبها ظاهرة في جسم الوطن، نقول على اللبنانيين أن يعتبروا من دروس الماضي، ولا يكرّروا أخطاءه. ففي بدء الحرب 1975 طرحت «الوثيقة الدستورية» كحل للأزمة فرفضتها المارونية السياسية رغم أن ما تضمنته من إصلاحات كان طفيفاً وكانت النتيجة بعد 14 عاماً من المواجهات والدمار أن خسرت المارونية السياسة الكثير من امتيازات موقعها في الحكم. واليوم نقول إنه من الأفضل للأطراف الذين يمسكون بأكثر من حقوقهم في الحكم سواء على الصعيد الوطني العام أو داخل طوائفهم أن يسارعوا للدخول في الحالة الوطنية التي يقود اليها نظام النسبية الشاملة ولبنان دائرة واحدة قبل أن يُفرض عليهم الأمر فرضاً، وتتكرّر تجربة الطائف، ولكن بعد أن يكون حلّ الخراب او الخسارة التي نحن بغنى عنهما، ولسنا مضطرين الى إلحاق لبنان بمنطقة الحريق العربي ثم نستدعي الخارج ليفصّل لنا ما يجب أن نلبسه ويكون عندها ثوباً يحقق مصالحه على أجسادنا.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى