كلمات آخر ما أعلنه الحلاج
الذين يعبدون الربّ وسط تكوين نقطة الأرض، كانت قلوبهم تحمل طهارة العدل الاجتماعي على حدّ تعبير هوبز أنّ الإرادة الحرّة جاءت من الاختيار، والملك المستبد يرى شعبة كالبهائم ، كما يفعل لوزيانة حين قطع شجرة مثمرة من أسفلها ليقطف ثمارها أثناء سقوطها على الأرض، ومثلما يحدث في العراق بنهب أموال الشعب بِاسم الديمقراطية التي تتربع على عرش الجماعة البريئة، ويكون دائماً هم المحرقة في كل الحروب التي تقودها الامبريالية.
بينما وقف رجل أمام بيت ذي صبغة دينية قائلاً «إني جائع»، وردّ صاحب البيت بالمودّة والترحاب، مؤشّراً بيديه إلى ذلك الفلاح الذي يحرث الأرض بقضاء حاجته، ولما قادته صوبه أسئلة الفلاح ما حاجتك، قال «إني جائع»، وردّ الفلاح بكلام فصيح: «بالله يا أخا العرب، لا أملك من حطام هذه الدنيا غير رغيف الخبز اليابس»، ودفعه إليه لعل يعينه على التحمّل. وحين رجع إلى صاحب البيت سأله: «هل عرفت ذلك الفلاح؟» قال: «لا»، أجابه: «ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً وأسيراً ويتيماً». وقبل أن يكمل قال: «علي ابن أبي طالب»، أجابه «نعم»، ولكنني أسألك أين اتجاهك؟ قال: «إلى بيت لحم لرؤية مكان المسيح، وصلبه قبل أن يعرج إلى السماء، حين أرسل الله شبيهاً له». ولما أنهى حديثه دفع له مئتي درهم تعينه في رحلته.
قال الرجل: «كأنك الحسن ابن علي كريم أهل البيت. حين أكرمكم الله بهذه الشهادة». قال الحسن له: «إذا وصلت بيت لحم صلّ ركعتين بشفاعة مبكرة لنا ولك».
ومرّت حقب أخرى كان الملك يشرّع قوانين الحكم الوراثيّ لتكريسها على العباد قائلاً: «أيها الناس، إنما أنا جئتكم بسلطان الله، في أرضه أسوسكم بتوفيقه».
فأجابه الوعي مرتجلاً: «أيها الملك، أتعلم ولادة الحق كيف جاء إلى فجر الحياة وجعلك ولياً علينا؟». بينما وقف رجل أمام بيت ذي صبغة اجتماعية قائلاً: «إني جائع»، فأرشده إلى ذلك الفلاح في المدينة «لم تعد سنبلة القمح تدركني ولست أدري من خطفها، الذئب أم أكلها النمل؟ فإذا كانت ثمرة جذوري أدركت كل شيء، فأنا في الظلّ أستبيح اللاوعي كنقطة فاصلة بين زمان مات، وبين وجود اللامنتمي، فالإنسان ذئب جائع أثناء الجوع والكل في حرب ضدّ الكلّ، فلا مجال لخداع الحلاج لأن النمر في مداخل المدينة يستبيح أعراضكم وأنتم تتصارعون على لعبة الكراسي المسحورة».
في أوّل قاعة للحكمة في بغداد أحلّ، وأقرأ سوَرَ مريم وطه والأحزاب، وأعرج على علم الأحياء بدراسة علم الفقهاء في الاستنباط، وأتجه إلى ابن الهيثم والبيروني وابن حيّان الكوفي، ونصير الدين الطوسي الحلي وابن سينا
والفارابي والخوارزمي وغيرهم كثيرين من علماء العرب، وأقوم نظريات العلم، ثمّ أُهدّئ روحي، أصمت، وأخرج بين اللحظة والأخرى وأناقش عقلي عن المثلثات والنقطة الضوئية الضائعة في الكون، وإنفاق الموت الحديثة التي تنفذها نظرية «الخطّاء فاعل إيجابي أحياناً»، بإعدام كلّ العناصر المشاركة، بشرية نباتية حيوانية، في المختبر التي أجريت بها النظرية، والبقاء على المنفذ والمخرج حَيّين، وهذه الفعل لم تتأثر به الامبريالية من خطايا في قتل الشعوب للاستيلاء على ثرواتها الاقتصادية، كما يحدث في اليمن الحرّ من مجاعة وقتل الأطفال والشيوخ والنساء، الذين طمرتهم الأنقاض وهم يتلون شهادة «الله أكبر» التي أخفت أصواتَهم الامبرياليةُ عمداً بدم بارد من قبل مجموعة «كان وأخواتها».
أن أُصلَب، يعني أنثر حبات الروح فوق سقف العالم. يعني إذا أتثاقل من جسدي، أحمل كل خطايا الناس والكائنات الضعيفة الاخرى، والتي تُذبَح قسراً لتأكل البهائم.
قال ابن منصور ذات مرّة: «العالم نصفان، نصف ترتاح إليه، والآخر تهضمه كالعلقم».
البارحة طرق سماعي حداء بدويّ، أخرجت قصائدي وغنّيت «آه يا زمن»، ألصقت الأولى في الضلع الأيمن، وأخّرت الأخرى إلى حين مرور القوافل على درب الحرير إلى مصر والشام، ولكني احتبست روحي في صدري، فأحسست أن القصيدة الثانية التصقت في وسط جذع شجرة التوت.
وحين اتجه هارون إلى مكة للحجّ، وجد امرأة في عرض الصحراء تحتطب،
تصيد الأفاعي وتقلع الشوك. قال لها: «ما هذا؟». قالت: «أقلع الشوك لأشعل به النار وأصيد الأفاعي قاطعة رأسها شاويةً لحمها على النار، لأطعم أطفالي، وهذه خير جنة من ظلم الملوك». تعجّب الملك هارون ورمى لها كيساً فيه حفنة دراهم فقالت: «جنة فيها دراهم لا أريد المكوث فيها لأني لم أرَ الله على أرضه».
وهذا الحلاج الجديد سيُقتل، إما في دار الحكمة، وإما في طيّات قصائد وكتبة، أو منفياً في دار الغربة مرتهناً، كمثل الحلاج حين اتّهم بالزندقة، وكان قلبه يشتعل بنور الله توهجاً.لا تعرفه الا المعتزلة في البصرة والكوفة، ولكنّه صُلب على جذع نخلة منخورة، لأنّ قومه لا يفقهون الحكمة. وكم أنت نبيل يا حلاج حين حرموا علينا قومنا شجرة المعرفة تلك السيادة التى كرّمتنا على سائر المخلوقات التى أنجبت الحرّية المطلقة، والتي كانت كرة بين الحاكم وبين السجين الثوريّ، معمّدة بالدماء.
حسن علي الحلي ـ اليمن