جورج مغامس… ثورة جبران وعناد الريحاني

د. محمود شريح

الدكتور جورج مغامس في «كلمات على هوا الأيام»، يردّ إلى فنّ المقال الأدبي ربيعَه. ففي هذا الفنّ تمكّن صاحبه من الجمع بين الفصاحة والبديع من ناحية، والأخلاق والوطنية من ناحية أُخرى. الكتاب على الجملة مقالات نشرها الدكتور مغامس على صفحة مجلّة سيّدة اللويزة الجامعية، التي يرئس تحريرها، روح الجامعة «NDU Spirit»، ففيها بثّ شكواه من تدنّي خلق وانحطاط لغة، وكلاهما، في نهاية الأمر عاملان أساسيان في حفر قبر أُمّة بأسرها. وها نحن على مشارف رمسها، اللهم إلا إذا حلّت علينا معجزة أو جيء إلينا بفلك نوح جديد طراز مطلع الألفية الثالثة، فعسى ولعلّ.

هي ثورة جبران وعناد الريحاني، وهو في البيان سليلهما، فلا تغيب عنه نسمات «النبيّ» ولا تغرب عنه حرارة «قلب لبنان»، فما هو يستنهض الهمم:

«لا يبني الأوطانَ ويهدِمُها كأبنائها مَقولةٌ مفهومةٌ معلومة. إلّا أنّ العجيبَ الغريبَ في لبنان، وفي غمرةِ التأكيدِ الذي لا يَحولُ ولا يَزولُ على السلم الأهليّ ومكوّناته وموجباتِ حمايتِه ونَمائه، أَنّ أُولي الأمرِ ومَن يَلوذون بهم ويَرتزقون لا يَنفكّون يُمعنون في القالوا ونقولُ، فيؤجّجون غيرَ نارٍ حارقةٍ ويؤلّبون نفوسًا ومشاعر ..، فإذا نحن في مَحابسِ الطائفيّةِ والمذهبيّةِ، والأكثريّةِ والأقليّة، واستقطابات المحاور الدوليّةِ والإقليمية، والانزياحاتِ صوبَ متاهاتِ الفقرِ والجهلِ والهجرة… والفتنةِ الكامنة! أَفَلن نُؤتى اتّعاضاً وارعواءً، لئلّا نُبلى، بعدُ، بعَوْدٍ على بدءٍ دموعاً ودموماً؟»!

يدرك د. مغامس تماماً أن المشكلة عندنا ليست في قلّة الرؤى والآراء وما إليها من برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية، بل في من يلتزمون بها وبتحقيقها، لا تثنيهم رغيبة أو رهيبة، ولذلك يدعو د. مغامس إلى أن يُقرن القول بالعمل، ويرى في ذلك العبرة التي بها يُعتبر.

دعوة صاحب «كلمات على هوا الأيام» صادقة لأنّها تحضّ على الأخذ بالفكر، بأسلوب جبرانيّ ـ ريحانيّ، يعصف ويهدر، فلا يبقي ولا يذر:

«لا غنى لنا عن الثقافةِ، نجنيها من القراءةِ وإعادةِ القراءة… من مواجهةِ أمّةِ إقرأَ، التي لا تقرأ…

الثقافة تحصّنُنا تنمّينا تقوّينا تجرّئنا على العجز الّذي فينا… تُكسِبُنا المرونةَ والانفتاحَ سَعةَ الأفقِ في العمق… نَنقدُ نَنقضُ نُقِرُّ نستقرُّ نكتشفُ المشتركاتِ نَعقِدُ التسوياتِ نقيمُ الجسور.

نتقلّدُ السلطةَ التى تصفُ للداءِ الدواءَ، تقُيلُ من عثرةٍ، تُنهضُ من هوّةٍ، وتستبدلُ بالظلمةِ النورَ والحبِ الرحيم.

نتقلّدُ السلطةَ التى تعلو كلَّ السلطات… تقوّضُ أوكارَ المنافقين، حظائرَ الفاسقينَ، عروشَ المستبدّينَ ممالكَ الاستبداد…

تستدركُ على شهاداتِ السوقِ الرائجةِ والطاغيةِ في دُورِنا التعليميّةِ على حسابِ شهاداتِ المعرفةِ الأصيلةِ الحصينةِ البريئةِ من دنسِ كلِ سلعةٍ رقميّة… تدركُ أنّ شهاداتِ السوقِ تَخضعُ لسلطةِ السّوقِ وأنّ شهاداتِ المعرفةِ تُخضِعُ السوقَ لسلطتِها… تُجيزُ العبورَ من معرفةِ الشكلِ إلى شكلِ المعرفةِ… تُبقي تكنولوجيّتَنا في حدودِ إنسانيّتنا وسيادةِ اللّهِ والأخلاق…».

في تقديمه إلى الكتاب، يرى د. أمين ألبرت الريحاني من مربضه في الفريكة، إحدى محجّاتنا الفكرية، أنها البلاغة في وصف ما آل إليه أهل السلطة من تجديف وتزييف وتقهقر، وأنه هو النقد اللاذع لمرض اجتماعي سياسي، بات يتفشّى ويضرب كل الأنحاء في جسم الوطن، فيرى في ذلك موازاة بين جميل اللغة الأنيقة وجليل المعاني العميقة.

في تذييلها الناصع الأخّاذ لمقالات د. مغامس، ترى د. ناتالي الخوري غريب أنّ هذه النصوص إيمان بالكتابة لأنها تؤسّس لثقافة المناعة، وهي عينٌ ترى الجرح في قلب الوطن، يدٌ تلمسه، أذن تسمع أنينه، لسانٌ لا يكتفي بتحسّس مرارة المصاب، بل بلسان صخوب بما أمر العقل بعد إدراكه، وبصيرة تستشرف رؤيا الخلاص ومشروع إمكانات حلول.

صرخة د. مغامس صاعدة من القلب تقول: «الغوث قبل العطب، ومن له أذنان للسمع فليسمع!».

ملاحظة، كتاب «كلمات على هوا الأيام»، من منشورات «دار الإبداع الحرف الذهبيّ»، 2017.

كاتب وباحث

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى