معركة الفصل بين المحاور ومشروع التقسيم… هل بدأ الآن؟
د. رائد المصري
لقد شكّل سقوط بغداد حين دخلت القوات الأميركية العراق في نيسان 2003، حقبة مذلّة بقيت مفصلية في فهم أوضاع العالم العربي وما يدور فيه، والعلاقة بين التدخُّل الأجنبي والاستبداد في العالم العربي، فهذا السقوط شكّل المدخل للسقوط العربي ثم المدخل الآخر لما نحن فيه وعليه الآن: «أيّ مشروع التقسيم»…
قبول الولايات المتحدة الأميركية برئاسة باراك أوباما بانتهاج سياسة تفاهم مع إيران بعد سقوط الموصل بيد تنظيم داعش الإرهابي منتصف حزيران 2014، وفشل المشروع الإخواني معه كذلك، ساهم كثيراً في الإسراع بعقد اتفاق فيينا النووي مع دول الخمسة زائداً واحداً، بحيث أصبحت طهران في أوضاع مريحة دولياً وإقليمياً، رغم تلقيها الكثير من الانتقادات الحادّة والهجوم على سياساتها من جانب بعض الدول العربية والخليجية…
أما في عهد الرئيس الجديد دونالد ترامب، فإننا نجد الأمر مختلفاً، فقد وضع استهداف إيران على رأس جدول أعماله وأولوياته الشرق أوسطية، وباتت المعادلة مرسومة بأن يُصبح وضع إيران وهامش تحرّكاتها ضيقاً في الإقليم، حيث إنّ أوباما الذي أيّد الدخول الروسي إلى سورية لمنع سيناريو ليبي جديد فيها، يرى ترامب في هذا الدور وسيلة لتحجيم دور إيران فيهاً، وهذا ما شكّل أحد الأهداف الرئيسية للوجود العسكري الأميركي في شرق الفرات، ليمنع الحشد الشعبي العراقي الواصل إلى تلعفر من التمدُّد إلى خط دير الزور – الرقة، بعد استرداد الجيش السوري تدمر من داعش، وما إسراع القوات الأميركية للبدء في معركة الرقة إلاّ لخدمة هذا التوجُّه الاحترازي..
وعليه لم تكن صدفة عملية الإنزال العسكري الأميركي ولقوات كردية على طريق حلب الرقة لمنع قوات الجيش السوري التي وصلت إلى بلدة الخفسة من التمدُّد نحو الطبقة والرقة.
كذلك يسعى ترامب في العراق لتحجيم طهران عبر مثلّثٍ معادٍ لها مؤلّف من الكرد والسُّنة وقوى شيعية متباينة مع السياسة الإيرانية، وفي اليمن يزيد ترامب دعمه لتحالف الرياض بخلاف ما كانت عليه سياسة سلفه باراك أوباما.
فهناك اتجاه واضح وحثيث لدى الإدارة الأميركية الجديدة اليوم في تقليص النفوذ الإيراني في الإقليم وإخراج حزب الله من سورية بأيّ شكلٍ، ومهما كان الثمن، حيث كانت تصريحات الجُبير في موسكو أصدق وأبلغ تعبير، وكذلك الردُّ الروسي عليها، فهذا التضخُّم للدور الإيراني في الإقليم بنظر ترامب غير مرغوب فيه ويضرُّ بمصالح أميركا وربيبتها «إسرائيل»، خصوصاً إذا كان حزب الله يشكِّل خطورة كبيرة في ربط الجبهات من جنوب لبنان وشمال فلسطين إلى الجولان المحتل. وها هي الهيستيريا الصهيونية تتفاعل في قصف المواقع العسكرية السورية، كلما تقدّم الجيش السوري وحقق انتصارات كبرى على المجاميع الإرهابية ومشاريعهم التقسيمية، لتشكل عامل حماية ودفع واستنهاض لهؤلاء القتلة للإمعان في التدمير والتخريب.
والولايات المتحدة الأميركية تخاف أكثر، والتي طالما اعتبرت أنّ الصين تشكِّل مادة التناقض الرئيسية لها في العالم اليوم، وعملت إدارتها الجديدة على محاولة فك التحالف بينها وبين روسيا، في افتعال الأزمة مع بيونغ يانغ وإرسال ترساناتها ومدمّراتها من دون أسباب موجبة، هي تخشى من إيران التي هي الممرّ الشرق أوسطي مع باكستان لبكين إلى إقليم الشرق الأوسط، وهنا كانت التعدِّيات التي شهدتها الحدود الإيرانية، وقتل ثمانية جنود إيرانيين من حرس الحدود في عمل إرهابي دامٍ.
كلّ هذه المؤشرات تفيد بأنّ واشنطن تسعى إلى تحجيم طهران عبر تشكيل حلف إقليمي، مثل حلف بغداد عام 1955 الذي كان موجّهاً ضدّ موسكو، ولاحتواء مصر عبد الناصر فيه…
وعليه لا نستطيع اليوم إلاّ أن ننظر لما يجري في الشمال السوري ودخول تركيا عسكرياً بضرب قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والاشتباكات بين الطرفين، وكذلك هذا التباين الواضح بين المشروعين التركي والأميركي الاستعماري على الأرض السورية، والذي يبدو أنه يدخل في الإطار التقسيمي وفقاً للسيناريو المرسوم من قبل…
وكذلك المحاولة العسكرية الأميركية وإقامة أكثر من 7 قواعد في شمال العراق وغربه وأكثر من 4 قواعد لها في سورية، كذلك الحديث عن تدخُّلات عسكرية في الجنوب السوري عبر المثلّث الحدودي الأردني السوري العراقي، للسيطرة على شمال وشرق سورية في الرقة ودير الزور والحسكة وإقامة حزام أمني عسكري على الحدود يمنع التواصل بين الجيشين العراقي والسوري، ويمنع كذلك أيّ محاولة للحشد الشعبي في مطاردة فلول تنظيم داعش، خصوصاً بعد الضربات الجوية التي قام بها الطيران العراقي على الأرض السورية، بالتنسيق بين البلدين للقضاء على المنظمات الإرهابية.
إذن، نحن نتحدّث هنا عن محاولة فصل أو عزل الشمال السوري بالاستعانة بقوات كردية وبعض العشائر العربية، كذلك بالاستعانة بقوات عربية في جنوب سورية، من الأردن والسعودية بانتظار الموافقة المصرية، وبالطبع الدخول الإسرائيلي المباشر والتنسيق العسكري، مع ما يسمّى قوات سورية الجديدة التي تدرِّبها أميركا ويرعاها الأردن وتموِّلها السعودية، لصناعة واقع وستاتيكو تقسيمي يصبح مقبولاً مع الأيام في ظلّ الإنهاك المستمرّ لقوى محور المقاومة واستنزافها، وما الحديث عن دستور سوري جديد ومسوداته التقسيمية وفق الإثنيات والطوائف والأقليات، والذي نادراً ما نجده في الأدبيات السياسية والاجتماعية السورية، إلا دليل على هذا المشروع الغربي الذي يرى أنّ سايكس بيكو كان فضفاضاً على بلاد العرب والمسلمين وأنه لا بُدّ من إعادة رسم الجغرافيا من جديد وفق التقسيم الدولي الجديد للعمل…
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية