في انحباس الغيث الأزرق

مشهور خيزران

أمطري أيتها السحابة غيثك الأزرق. فالخوابي تشقّقت جدرانها واحتلتها الجنادب.

والأقلام عادت إلى سجون، أرحامها ترسم النطف بلون آخر وتدوي في الأوردة

صيحة الدم.

أينكم الآن أيها المبدعون الكونيون؟ أدباء، شعراء، مسرحيين، سينمائيين، تلفزيونيين، تشكيليين؟ أينكم من ذئبية هذا العالم المفترس، عالمكم الذي تعيشون؟ هل أمست الأقلام خرافاً؟

أينكم والسكاكين تحزّ الرقاب والمخارز تفقأ الأعين، والعنقوديات تمزّق الأكباد والنيران تلتهم الأجساد حيّة والموت يدقّ أعناق الأمهات والأطفال تحت السقوف والقاصر تُغتصَب أمام أبيها؟

أينكم والقاتل منفلت من زريبته وبيمينه كتابه السماوي وبيساره صور لأربعين سماوية مقشرة، والرُضّع يُذبحون من الحلمة إلى الحلمة.

يا أقلام أوغاريت… أينكم؟

هل بتّم كحناجركم المكتوبة بأقلام الهتاف ولا شيء أكثر من فتات الكفاف؟ أم بتّم تتفيأون أوراق دفاتركم والجحيم يغتصب الوطن من البكارة إلى البكارة؟

تنامون ملء الجمود كما النقاط والفواصل بين الكلمات، أو كتلك الـ«ما» الزائدة التي تدسّ رأسها بحشرية بلهاء بعد «إذا»، ولا محلّ لها من الإعراب ولا قيمة؟

أما بلغ مسامعكم بعد صوت استغاثة العير بأوجاع النفير؟ هل جفّت محابر رؤوسكم وأضحيتم لا أنتم في العير ولا في النفير؟ هل أصبحتم في هذا الزمن الغابي المغائري كقطيع ظباء باغتتها ضوار لتفرّ مذعورة تضرب في كلّ الجهات للنجاة؟

أو «كحمر مستنفرة فرّت من قسورة» ما أنتم؟ وأين أقلامكم من أقلام أسلافكم الذين بنوا أعشاشهم الأدبية والشعرية حرفاً حرفاً على أفنان الجمال المواجه الناكر للذات وظلّ يقاوم. فكم توعّرت بهم دروب الوطن وأوحلت وهم يرفعون أقلامهم يهزّونها في وجه الطغاة بصيحة القصيدة والرواية والقصّة والمقال والأغنية ومن فوق صهوات خشبات المسارح.

أن كفّوا أيها الأوغاد عن احتطاب رقابنا وجعلها مواقد لحروبكم وأكتافنا عتبات لقصور سلطانكم وأفئدتنا رقعاً لكتبكم المنزلة وأعيننا مستنقعات تخوض بها خياركم ولتبقى جلودنا لشهوة سياطكم وأكفّنا دناناً لخمر فجوركم.

نعم، هكذا كان أسلافكم. فشُرّد منهم من شُرّد، واعتُقل من اعتُقل، ومات سحقاً بالبصاطير في الأقبية من مات. ولم تهن لهم قصيدة، ولا انخفض لكلمتهم جناح، وحتى الآن لم تزل أوطانهم تكتب أسماءهم بحبر أشعتها كلّ صباح.

ألا أيها المبدعون في هذا الزمن الرخو وأنتم تحاولون الاختفاء خلف هذا الرخو مما كتبتموه في محنة الوطن، مدّاحين أو شتّامين، ما أنتم في هذا سوى مجموعة تركب حافلة وفجأة أصيب سائقها بالسكتة القلبية. أو كغواص أوهمته عيناه أن الماء صاف وتلامعت له الدرر في الأعماق ليقفز. وإذ به يغوص في طمي مستنقع ذلّ ذيليته وقريشات استكتابه بل استئجاره واستبواقه مصفّقاً.

أيها المبدعون، هل سيكون الروائي والقاصّ والشاعر والمسرحي إلا رجلاً من أمه؟ وأيّ كارثة ستحلّ بالمجتمعات البشرية إذا ركع أدباؤها وكفّوا أو سفّوا؟ إنه الانتحار… انتحارهم هم… وتبقى الحياة حياة.

فالأدب إذا خُلع عنه رداء الوطن وأدار الظهر لكادحيه فلا ريب سيكون كمن يمشي في جنازة نفسه.

فيا لبؤس أمّة حين يمسي مبدعوها منزوعي الفتيل والصاعق. وأيّ فجيعة ستحلّ بهذه الأوطان إذا ما استحال مثقّفوها إلى «كتيت ذبالة» سراج غلبته العتمة ليلفظ آخر شهقاته تحت سياط سطوتها مهزوماً، حين لم يشفع له رقصه محتفلاً بأعياد الظلام. وبنسبية الأشياء أقول مستثنياً الندرة منكم ها أنتم تنحدرون إيغالاً بأحوال صمتكم المريب. في حين أوطانكم تزحف الثعابين إليها محمولة على منكبيّ الكذبة السرمدية… كذبة الفردوس… والكذبة الأشد قذارة تلك العدالة التي يكتبونها بدساتيرهم بأقلام النفاق. وأنتم تدسّون رؤوسكم في رمال الوهم كما النعام، وأجسادكم نهباً للعقارب وأسراب الذباب ليسبغ الله عليكم بنعمته لتبقوا خرافاً كما خلقتكم مشيئته ولائم لذئابه.

الأدب أيها السادة الأدباء إذا شاء أحال السمّ ترياقاً وزرع في الجلاميد ضروعاً تدرّ لبناً وتمراً. وإن لم يفعل أو استكان وهان وأهمل أن هو إلا «هنبقي» أو «أشعبي» يسير ذليلاً إلى وليمة خيانة. ولن يكون إلا كلمة مكتوبة بحبر الطين تتناعثه الديدان بين أخاديد السطور وشعاب الصفحات.

أيها الأدباء، أعلم أن قيامتي ستقوم عندكم ولا تقعد. ولتعلموا أن شعوبكم يموتون ذبحاً أو ظلماً أو جوعاً بغير أمر من الخالق. وعليه أوطانكم كما ترون أصبحت قاعاً صفصفاً. تموت بمن فيها ومنها وعليها بأمر من ضواري قفاركم المتقاتلين بكم لتبقى صولجاناتهم ولتبقوا رعاعاً ولتبقى سيوفهم ولتبقى رقابكم.

أعرني يا «عساف»، يا بطل جميل شقير وأنت تجدف في وحل روايتك ثائراً. أعرني مجدافك ولو لليلة لأصرخ من فوق خشبة مسرحي بهذا العالم القحب، بهذه الوحوش السائبة لصوص خبز فقراء العالم هنا وهناك. في أربعة حيطان هذا الكون الزنديق، انتظروا يا ديناصورات المال والعهر والحروب كلكم كلكم… انتظرونا. آتون لن يطول انتظارنا. نحن جياع هذا العالم المستنقع عالمكم. آتون من حدب وصوب من كلّ عرق ولون. آتون على صهوات الحياة ولا سلاح في أيدينا غير الحياة.

أديب وفنان ومسرحيّ سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى