إما أن «تَطْقُشْ» البيضةَ من الجهة التي أحبها أنا… وإلاّ…!

نصار إبراهيم

تُعتبَر رحلات جوليفر الخيالية أشهر أعمال الكاتب الإنجليزي جوناثان سويفت 1667-1745 م ، وغوليفر هذا كان جراحاً على سفينة تتجه إلى الشرق، فواجهت السفينة عاصفة حطمتها، لكنه استطاع النجاة من العاصفة وقذفه الموج إلى شاطئ مجهول، وحين استيقظ اكتشف أنه في»مملكة» اسمها «ليليبوت» وهي لأقزام متوسط طول الواحد منهم 15 سم، تعلم غوليفر لغتهم وزار عاصمتهم، ثم أطلعه أحد مستشاري الملك على مشاكل المملكة العويصة، حيث انفصل نصف سكان «المملكة» وأسّسوا لأنفسهم «مملكة» جديدة اسمها «بليفوسكو».. ومنذ عقود تدور حرب طاحنة بين «المملكتين التوأمين»… ولكن ما هي أسباب الانفصال والحرب المستعرة بين المملكتين العظيمتين؟

يقول المستشار: إنها أسباب «مبدئية وأيديولوجية جدية جداً!»، أولها أنّ نصف شعب المملكة يؤمن بتقليد الأجداد القديم بارتداء الأحذية ذات النعل العالي، فيما النصف الثاني يؤمن بالأحذية ذات النعل المنخفض. وثانياً يحب النصف الأول حين يأكل البيض أن يكسر البيضة من نهايتها العريضة، فيما يحب النصف الآخر من الشعب أن يكسروها من النهاية الضيقة… وهكذا انفجرت التناقضات واشتعلت الحرب التي تتواصل منذ عقود طويلة بين المملكتين.

والآن يا غوليفر هل يمكنك أن تساعدنا لإنهاء هذه الحرب وإعادة توحيد المملكة!؟

صمت الدكتور غوليفر وفكر… ثم قال بسيطة: ليرتدي كلّ واحد من الشعب ما يحب من الأحذية، وليكسر أقصد «يطقش» كلٌّ بيضته من الطرف الذي يحب!

رد المستشار: لقد فكرنا بذلك.. ولكننا لم نتفق… فقضايا الخلاف كما ترى جوهرية وحاسمة!!!

هرش غوليفر رأسه: مممممممممممم حسناً.. رأيي أن تستمروا في الحرب!

أتوقع أنّ الكثيرين سيضحكون وبسخرية من قضية الخلاف بين ليليبوت وبليفوسكو… ولكنني في الحقيقة لا أدري إنْ كنا نختلف عن شعب مملكة ليليبوت ومملكة بليفوسكو.. في شيء أم لا!؟

فنحن أيضا بارعون في تظهير التناقضات الثانوية والخلافات العادية والطبيعية وتقديمها باعتبارها البرهان الساطع على الوطنية والانتماء… وأنّ التناقضات الثانوية والطبيعية تماماً بالضبط مثل بيضة ليليبوت هي الطريق الوحيد للتعامل مع التناقض الرئيسي… أيّ الاحتلال!

كما أنّ كلّ واحد فينا يؤمن بأنّ زاوية نظره للأشياء هي الزاوية الوحيدة الصالحة… وما عداها زوايا ميتة، كما ويعتقد جازماً حاسماً أنّ الأمر الذي يهتمّ به هو مركز الكون وما عداه تافه ولا قيمة له! إنها ذات حكاية البيضة بالضبط.

كما لا أدري أيضاً لِمَ ننسى دائماً بديهة بسيطة كبساطة التنفس وهي: أنه يستحيل أن يكون الجميع نسخة واحدة، كما يستحيل أن يعطي كلّ واحد بذات الطريقة وذات المقدار وذات الشكل!

لا أدري لِمَ ننسى دائماً بديهة أخرى بسيطة كبساطة شرب الماء وهي: أننا بحاجة لطاقة وجهد وكفاءة كلّ إنسان في هذا الوطن…؟

لا أدري لِمَ ننسى دائماً بديهة ثالثة أخرى بسيطة كبساطة الولادة الطبيعية تماماً وهي: أنّ قوة الشعب، أيّ شعب، هي في تنوّعة وتكامله ووحدته.

كما أنه أمر أكثر من عادي عندنا أن يصرّ كلّ واحد فينا على أن يجعل من الآخرين نسخة كربونية عنه في المواقف والسلوك، والنظر إلى التنوّع الطبيعي والعادي في المجتمع باعتباره مشكلة كبرى، فلا نرى أنّ الشعب وبكل بساطة هو طيف شامل بكلّ تنوّعه الاجتماعي والفكري والعاطفي والمهني والعلمي والاقتصادي والثقافي والجنسي… وبالتالي يستحيل أن تكون مواقف وردود فعل ودور كلّ واحد فيه نسخة مطابقة للجميع!؟ بالضبط كالمشكلة العويصة في الخلاف من أيّ طرف يجب كسر البيضة! .

لا أدري لِمَ نحن دائماً مطلقون في أحكامنا وكأننا في عداء وراثي مع النسبية والنسبي! فكلّ واحد يعتقد ويتصرّف جازماً حاسماً أنّ طريقة طبخ «المقلوبة»، أو أسلوب المقاومة الذي يؤمن به هو الأسلوب الوحيد الصحيح والشرعي والممكن وما عداه عبث وتفاهة.

كما لا أدري لِمَ لا ندرك أننا بحاجة لكلّ شكل من أشكال المقاومة والحياة لكي نكون وننتصر: العلم، السياسة، الاقتصاد، الثقافة، الأدب، الفنون، السلاح، القلم، الفكر، الأغنية، الموسيقى، الرياضة، الفرح، الألم، العمل، القراءة، الطب، الهندسة، الزراعة، الحرفة، وتنظيف الشوارع… لماذا نصرّ أن نضع كلّ هذه الأشكال في مواجهة تناحرية!؟

كما لا أدري ما يجب عليّ أن أدري لكي لا أثير غضب من يختلف معي لأنني أحب أو لا أحب «الدِّحية» او الملوخية، أو الدوري الإسباني أو فيروز… وبأنّ ذلك ليس له علاقة بموقفي من الوطن أو الانتماء للشعب والأمة.

لا أعرف لِمَ كلّ واحد فينا حين يريد أن يبرهن أنّ فصيلة دمه، طائفته، عائلته، مهنته، حزبه، طبخته، بغلته، لون عيونه، قهوته، ضحكته، شكل أذنيه، بطيخته هي الأفضل إلا من خلال البرهنة على أنها عند جاره أسوأ ما يكون.

كما لا أدري أيضاً لِمَ نحن مولعون بالثنائيات المطلقة، وكأن ليس هناك أيّ تدرّجات في الحياة لا في الألوان ولا في السلّم الموسيقي ولا في الحركة، كأن تكون المرأة جميلة وتفيض بالأنوثة والقوة في ذات الوقت، أو أن يكون الرجل قوياً وحازماً وفي نفس الوقت لطيفاً وحنوناً ورقيقاً!؟

لا أدري لِمَ نحن مغرمون بـ «لكن» فنزجّها كقوة فصل غاشمة حتى بين البصلة وقشرتها، جميل ولكن… غبي ولكن، أحبك ولكن، أكرهك ولكن، سأزورك ولكن… سأساعدك ولكن، ضدّك ولكن، معك ولكن، أبدعت ولكن، فشلت ولكن، طيب ولكن، سيّئ ولكن، اسكت ولكن، تكلم ولكن… متْ ولكن…!

لا أدري لماذا حين يريد أحدنا أن يثبت أنه مثقف مبدع لا يكون ذلك إلا بالحط من قيمة من حوله من الزملاء!؟

لا أدري لماذا لم نكتشف بعد أنه يستحيل أن يكون هناك شعب كله من النساء فقط أو من الرجال فقط!؟

كما لا أدري لماذا نعتقد دائماً أنّ دور الطبيب أو المهندس أهمّ من دور النجار أو الحداد أو المزارع، وأنه يستحيل أن يحيا شعب كله من الأطباء فقط، أو المهندسين أو النجارين فقط، فالشعب بحاجة للأحذية والسمك والبطيخ أيضاً… أليس كذلك!؟

كما لا أدري لماذا ننسى دائماً أنّ الأصل في الحاجات والخدمات هو القيمة الاستعمالية وليس قيمتها التبادلية، فالأصل هو تلبية الحاجات وليس الربح!؟

يعني وباختصار شديد أمامك خيارين لا ثالث لهما: إما أن «تَطْقُشْ» البيضة على طريقتي… أو سأعلن عليك حرباً لا تبقي ولا تذرّ… أنا لا يهمّني موقفك من «إسرائيل» وفلسطين والوحدة الوطنية ووحدة الأمة ونهب ثرواتها والتطرف الاجتماعي والديني ومسألة الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية والفقر والبطالة والفساد وتخلف نظام التعليم وشروط البنك الدولي… ما يهمّني هو موضوع «طَقْشْ» البيضة، إنه بالنسبة مسألة حياة أو موت لا تحتمل المساومة… فلا حياة لنا معاً في هذا الوطن بدون حسم مسألة البيضة… هل تفهم!؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى