سعيد تقيّ الدين بأقلام آخرين
ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.
إعداد: لبيب ناصيف
جميعنا، وإلا معظمنا، قرأنا سعيد تقيّ الدين، ذلك العملاق الذي، إن قرأته مرّة، أدمنتَ ورحت تقرأه كلّ مرة: المنبوذ. غابة الكافور. نخب العدو. غبار البحيرة. سيداتي سادتي. رياح في شراعي. أنا والتنين.
وتكثر الأسماء ولا تنتهي، بعضها بقلم الرفيق الأديب سعيد وبعضها، الأكثر، كتبها الرفيق جان داية «الاختصاصي» في كتابات عملاق الأدب وإنتاجه وسيرته.
إلى الذين قرأوا سعيد تقيّ الدين نقترح أن يقرأوه مرّة جديدة وأكثر، ومن لم يتسنّ لهم ذلك أن يسرعوا إلى قراءته.
عام 2001 أصدر الرفيق جان داية عن «فجر النهضة»، مؤلفه بعنوان «كتبوا عن سعيد تقيّ الدين» وفيه، كما يتوضح من العنوان، مجموعة من المقالات الشيّقة، لأدباء من لبنان.
لمزيد من الإضاءة على عملاق الأدب ننشر معظم ما كتبه الأمين إنعام رعد والرفيق أنيس أبو رافع.
الأمين إنعام رعد
في أواخر السنة المدرسية عام 1948، على ما أذكر، وبينما كانت المدارس والأندية تتزاحم على سعيد تقيّ الدين، الأديب الكبير العائد من المهجر يرفل بالصيت الأدبي الضخم وبحلّة من الوجاهة الاجتماعية قشيبه، وكنت في بيت أقرب إلى الكوخ في رأس بيروت، هو بيت عميد الداخلية في الحزب القومي الاجتماعي يومذاك، الأمين الياس جرجي، وكنت على عادتي بوصفي مسؤولاً في عمدة الإذاعة، أمرّ على عميد الداخلية نتداول في العمل الحزبي وفي شتى المواضيع. ويومذاك أذكر أن الأمين الياس كان متهلّل الوجه، منبسط الأسارير، وإذا به يُطلعني على سرّ حبوره فأمامه مجلة أو جريدة، لا أذكر، وفيها خطاب سعيد تقيّ الدين في «المقاصد». وقرأ الأمين الياس على مسمعي مقاطع من خطاب سعيد تقيّ الدين، فإذا نحن أمام فكر قومي اجتماعي: حملة على الطائفية عنيفة، وتحديد للوطن الطبيعي من الشمال إلى السويس. وتطلّعنا نتبادل نظرات الاعجاب: هوذا أديب يطلّ على كل مسرح ولكن حقيقته في الصميم تنبض بالقومية الاجتماعية الصافية ولعلّه هو لا يعرف نفسه أنه قومي اجتماعي بالعفوية. وكرّت الايام، تلّفنا زوبعة الأحداث، وسمعنا أن سعيد تقيّ الدين قد أصبح رئيساً لجمعية الخريجين، وأنه آت إلى رئاسة المؤسسة بمشاريع جديدة.
في رئاسة الخرّيجين
كانت مؤسّسة جمعية الخريجين عبارة عن اسم لغير مسمّى، بسيطة متواضعة، لا وجود مكانيّ لها، لا ناد ولا من يحزنون. كل ما في الأمر نشرات صغيرة تصدر بين الفينة والفينة تحمل أخبار الخريجين ودعوات توزع على حفلاتهم التقليدية. هذا كل ما كانت عليه مؤسسة جمعية خريجي الجامعة الأميركية، حتى أفقنا ذات يوم فإذا نحن أمام مبنى جبار وأمام مجلة كبرى تصدر عن الجمعية، وأمام نشاط يكاد يطبق الأفاق. وتساءلنا ماذا في الأمر، أيّ عصا سحرية حرّكت الصخر فأصبح مدراراً وأيّ سرّ كامن وراء هذه الحركة التي كلها بركة، بل أيّ إله ـ إنسان نفخ في الطين فصار كياناً حياً؟ وقيل لنا إنه سعيد تقيّ الدين، خطيب المقاصد الذي تحدّث عن إلغاء الطائفية، وصاحب «الثلج الأسود» و«حفنة ريح». الرجل الذي لم يعد إلى الوطن، بثروة تتحول إلى مشاريع إثراء، بل عاد ليوزع ثروته على المعوزين وفي مشاريع العمران الاجتماعية. إنه سعيد تقيّ الدين الذي حرّك جمعية المتخرجين فبعثها من الصفر إلى المئة. وحمل عليه، يومذاك، الأراخنة من أصحاب «الرادنكوت» الجامعي، الذين اعتادوا الروتينية والبلادة في العمل، وقالوا إنه سيخرب جمعية الخريجين، فيما كان يبني المؤسسة مدماكاً ولبنة لبنة وحجراً حجراً. ويوم تمت الأعجوبة والتأم الشمل الجامعي في ظل الرئيس ـ الدينمو، خرست الألسنة الناهشة، ولكنها وجدت في انتمائه إلى الحزب بعد ذلك سلاحاً جديداً تحارب به سعيد تقيّ الدين، لإقصائه عن رئاسة الجمعية. ولكن سعيد كان أكبر من ذلك فبعد التجديد له وإكمال مدته الجديدة لم يترشح للمرة الثالثة وغادر ساحة المعركة بعد أن ضفر أكاليل الغار على جبين الجمعية وعمّر ناديها، أما الموتورون فقد شعروا أن سعيداً كالشمس لا تحجبها الغيوم.
وأذكر أن في أحد أيام رئاسته الأخيرة للجمعية وبعد انتمائه إلى الحزب، لم أطق مهاترات أحدهم مع رئيس الجمعية، فوقفتُ متحدّياً ذلك المهاتر بأن يشرّف إلى الخارج لنصفّي الحسابات، فكان أن جلس المهاتر بعد أن سمع منّي «تلك اللغة» وانتهرني سعيد وهو رئيس الجمعية بأن أجلس وأكفّ عن الكلام: انتهرني بصوت عال فيه امتزج الغضب الرسمي بالاعجاب الضمني، ولم أزل أذكر زمّة شفتيه أسفاً لتصرفي وضحكة عينيه تقديراً مكتوماً لما حدث. وشعرت يومذاك أنني أمام شخصين في إنسان واحد: شوفيّ عتيق يحب الشجاعة والجرأة والمجابهة، ورئيس جمعية يحافظ على الأصول في النقاش وأعرف أنني أحببت الشخصين في سعيد يومذاك وأكبرتهما معاً!
في أزمة 1949
كنا في السجن: فؤاد أبو عجرم، وأديب قدورة، ومحمد البعلبكي وغسان تويني وأنا، وأذكر أننا علمنا ونحن خلف القضبان أن رئيس جمعية الخريجين سعيد تقيّ الدين ذاهب لمقابلة رئيس الجمهورية وطلب العفو عنا. كان لتلك الخطوة أثر كبير في نفوسنا، ذلك أنه تمالكنا شعور بأن سعيد يعني بالفعل تحويل جمعية الخريجين إلى رابطة حقيقية، لا وهمية وأنه من جهة ثانية، يعتبر نفسه مسؤولاً عن حرية أعضائها مهما كان اتجاههم العقائدي والسياسي. هذه الرحابة في الصدر، هذا الشعور بكرامة المواطنة وكرامة العضوية في المؤسسة، كان غريباً عن أجواء البلاد الرسمية وحتى الشعبية في أغلبها وكان له أعمق تقدير في نفوسنا. وشعرنا يومذاك، أن سعيد، في جمعية الخريجين، يفتش عن قضية كبرى يخدمها، وانه كالنسر الذي يتحرك على ربوة وقد خلق للقمة العالية!
ومرة أخرى استعدنا خطاب المقاصد، وشعرنا أن هذا «القومي الاجتماعي» الذي لا يعرف نفسه، يجب أن يتعرف إلى حقيقة نفسه ويصبح قومياً اجتماعياً بالفعل!
ويوم انتمى سعيد تقيّ الدين إلى الحزب، كانت فرحتنا الكبرى، لأن انتماءه كان له مغاز كثيرة ومعان عميقة. ذلك أن كل الظروف كانت معاكسة لانتمائه ولكن نفسه وإيمانه كانا أكبر من الظروف. فالحزب كان منحلاً، والجو الاجتماعي السياسي المحيط بسعيد كان معادياً للحزب أو على الأقل غير صديق، وكم من صديق له جافاه واستنكر انتماءه، وأخيراً فان سعيد تقيّ الدين كانت قد تكوّنت شخصيته الأدبية والاجتماعية وحتى المعتقدية، تكوناً شبه كامل، فلم يكن في سن فتوة حتى يأتي الأمر بسهولة. وكان السؤال الذي ارتسم على شفاه الكثيرين منا: هل حقاً سيتمكن «الشيخ» سعيد من أن يمارس النظام القومي الاجتماعي ولو هو آمن بالعقيدة؟ واستمر السؤال يلح علينا حتى اتتنا الخبرة تنقل الينا المشاهد التي اثارت الذهول لأول وهلة، ولكنها كانت من صميم معنى حركتنا وعقيدتها.
فعلى ضريح الزعيم في السنة التي تلت انتماء سعيد إلى الحزب، أو بعد ذلك بسنة على ما أذكر، وقف مسؤولو الحزب يستعرضون صفوف القوميين الاجتماعيين، وتطلعت فوقع نظري على صف طويل يسير باتجاه المسؤولين بخطى نظامية رتيبة وفي مؤخرة الصف كان الشيخ سعيد… ولم ألحظ إلا ومضة إعجاب برقت في أعين المسؤولين، فهذا مظهر اطمأنت نفوس كثيرة إلى انه جاء من جملة الأدلة الساطعة على انصهار نفس سعيد كلياً في الحزب وقضيته.
وبدأ نضال سعيد في الحزب، واشتد وعنف، وفي يوم من 1954 على ما أذكر أصبح سعيد منفذاً عاماً لبيروت.
المنفذ العام الذي لن تنساه بيروت
وكان مع سعيد في هيئة المنفذية الأمين جبران جريج، مرشداً إدارياً بما له من خبرة طويلة في العمل الحزبي. ولكن الرفيق سعيد أطلق، من دون ريب في المنفذية، روحاً ديناميكية لن تنساها منفذية بيروت ولن تزول من سجلاتها. وانطلقت عجلة الحزب في بيروت يومذاك في دورة حية متكاملة قوية، حتى يمكن أن يقال أن هذا الفرع عرف عهداً ذهبياً من الازدهار الحزبي في ذلك الوقت. وكان سعيد مسروراً بعبء المسؤولية، منصرفاً اليها بصدق ونشاط. ولم يلبث الزمن أن دار دورته وانفجرت أحداث الشام، وانتقلت القيادة الحزبية إلى بيروت، وإذا بسعيد على رأس عمدة الإذاعة، وإذا بي معاوناً له في العمدة.
يوم عملت بأمرته في عمدة الإذاعة
كنت معجباً بأدب «الشيخ سعيد» وكنت معجباً كذلك بأدب «الرفيق سعيد» الذي كتبه فور انتمائه إلى الحركة، من البيان ـ الاعلان الذي توّج به حياته الحزبية إلى «رفّات الجناح»، ولكن أدب «العميد سعيد» كان شيئاً مدهشاً ومثيراً. فذلك القصف الذري الذي لا يهدأ يفجّره العميد سعيد في وجه خصوم الحركة القومية الاجتماعية، وتلك الأساليب في الاخراج المسرحي للأحداث، حتى يكاد مُطالع «صدى لبنان» بين أيار 1955- آب 1955 يجد نفسه أمام دراما من الأحداث تتماسك في عقدة روائية ضخمة. وفي عرفي أن أكبر مسرحية كتبها سعيد انما هي فصول تلك الحملة الجبارة في أحداث الشام صيف 1955. فمن الكتب المفتوحة إلى شوكت شقير، إلى قصة جميل العريان إلى مشاهد السياط وقصص تعذيب القوميين الاجتماعيين يروونها بإشرافه في مؤتمرات صحفية، فصول وحلقات من دراما حيّة أخرجها سعيد تقيّ الدين، وكان الإنسان بثورته على القيود والطغيان وصراعه من أجل الحرية، وآلامه وجراحه النازفة هو بطله الجديد.
وعملت بأمرة العميد سعيد ثلاثة أشهر، من أجمل أيام حياتي الحزبية. واختبرته عن كثب: خلاقاً عملاقاً مولداً، دينمو لا يهدأ، عاصفة لا تدرك شاطئ ونسراً دائم التحليق. ففي بيته الذي كان يسكنه في شارع عبدالعزيز، كنا نتلاقى حول مكتبه الذي لم يعرف الترتيب وقد ورثتُ عنه المزيه من بعد ، وأمام مغلاة القهوة التي لا تفرغ، وفي حضرة العميد الذي لا تنطفئ سيكارته، بل اذا انتهت قفزت من اصبعه إلى احدى الزوايا لتحلّ محلها سيكارة أخرى، كنت أجلس لأستمع إلى تعليماته وأوامره: اكتب بياناً للأرمن، أكتب بياناً عن الأمينة الأولى لتوقعه كل نساء لبنان، افعل كذا… ما رأيك «يا أستاز» في أن نفعل كذا…اسمع هذه مقالة جديدة كتبتها.. «كيف لقيتها.. هيك ايه..» ولم أكن أعرف أن للعميد سعيد هذه الطاقة على العمل.. ولم أكن أعرف أن سعيد كان أكثر من عميد للإذاعة، كان درع الحزب في ذلك الحين. حتى مكثت معه قليلاً. فإذا هو يخرج من بيته في آخر الليل ويعود في الصبح.. كان عند عميد الدفاع.. ولا ينام.. يشرب القهوة ويستقبل رفقاء من الشام.. ويعود إلى الكتابة والخلق والابداع.. لم أزل أذكر وهو أمير الظرف والفكاهة ـ كيف ضحك وقهقه يوم سخر بقلمه العبقري من اتهامات المكتب الثاني الشامي: واذا به ينادي طالباً الاتيان بصورة «بيريا»..وعجبت وشاركني عجبي كل من في الغرفة، وأتينا بصورة «بيريا» فاذا به يكتب ذلك التعليق الساخر: بأن القوميين الاجتماعيين وسط زحمة اتهامات الشام ضدهم هم الذين قتلوا «بيريا»!
وهدّت حملته أعصاب «الجماعة» في الشام وترصدوه فما جبن بل ازداد اضطراماً. وكان الانهاك والارهاق قد بلغا حداً منه ولكنه لم يكن يعرف الراحة وشعرت يومذاك بتقدير عميق له، بل اذهلتني فتوته المتحدية الكهولة، حتى جاءت في يوم،كنت انتظره في المكتب، ديانا كريمته وحدثتني ذلك الحديث الذي أبكاني: حدثتني عن أن والدها صحيّاً في حالة ارهاق، وان استمراره على هذا النحو معناه الانتحار.. والتمع في خاطري منذ تلك الساعة الخاطر الرهيب: هل تهدّ المتاعب سعيداً.. لا سمح الله! ودخل العميد سعيد، فوقفتُ وحييت. وقلت له ـ وكانت ديانا قد عادت إلى غرفتها ـ «حضرة العميد أودّ أن أبحث معك أمراً خاصاً»، وانتهرني بلطف: لا مجال لبحث الأمور الخاصة، لدينا شغل أمين انعام». قلت بوضوح: «صحتك..انها في إنهاك.. يجب أن تأخذ فرصة، ان تستريح»! وحدجني بنظرة عميقة وكأنه يقول لي «وانت ايضاً يا بروتوس؟»، وقال: «نستريح والمعركة في أوجها»؟ وسكتُّ فقد غلب المنطق الحزبي كل حجة، وعلّمني الرفيق «الجديد» سعيد تقيّ الدين درساً كان عليّ أن أتعلّمه وأنا الأقدم منه في الحزب من زمان: «أنستريح والمعركة في أوجّها؟!».
الوداع الأخير في المكسيك
ولم أكن أظن اننا سنلتقيّ بعد ذلك بأشهر.. أثناء جولتي الحزبية إلى المغتربات. ولكن عدنا فالتقيّنا على مطار مكسيكو، كان في مقدمة من امتدت يدي تصافحهم وعانقته بشوق وسرنا معاً إلى المدينة العظيمة.. وكنت لا أصدق عيني:أهذا هو سعيد؟ بدا شاحباً وبدت ظلال الموت في عينيه. وكانت قدمه ـ كما لاحظت في ما بعد ـ تعثر. ولم أنتظر طويلاً، ناديت المنفذ العام ـ قديسنا في المكسيك ذلك الرجل المتفاني المحبّ عساف أبو مراد 1 ـ وتحدثت إليه في أمر صحة سعيد وذهبنا إلى الطبيب الاخصائي بعد أن وجدنا صعوبة في اقناع سعيد أن يذهب معنا اليه، وهناك وبعد فحص دقيق أنذره الطبيب، وطلب منه: وقف التدخين. ومرة أخرى قيّض لي أن أشهد محكاً جديداً لإرادة سعيد. لقد توقف عن التدخين، ولم تعد سيكاراته تتعانق في وهج مستمر، ولا عادت تستقر في زوايا الغرفة. ولكن هل جاء ذلك متأخراً؟
وفي حفلة أول آذار جلس سعيد إلى جانبيّ في صدر المائدة، وكنت ضيف المنفذية، ووقفتُ أخطب عن معنى مولد الزعيم وكانت جموع من الجالية والقوميين الاجتماعيين تحضر الاحتفال فإذا بي أتحدث عن سعاده وعن جنوده وتلامذته الذين أخذوا منه العبرة في التضحية والفداء، وتحدثت عن سعيد، وكنت أشعر أنني ربما أخطب للمرّة الأخيرة وهو معنا. ولمعت في خاطري مقدّمة «سيداتي سادتي، وذكريات من الوطن»، وشعرت أن عينيّ سعيد اغرورقتا وأنا أتكلم عن جهاده في الوطن، كان مرهف الاحساس كالوتر المشدود أبداً إلى نغم إلهي!
وفي مكوثي هناك عشرين يوماً قضيت قسماً كبيراً منها معه، وجدت أي حب عميق يشد رفقاءنا في المكسيك إلى سعيد، لقد أحاطوه كالسوار بالمعصم، وأذكر منهم أربعة احتضنوه بأجفانهم: عساف أبو مراد، توفيق الاشقر 2 ، جليل رحباني 3 ، وفؤاد سمعان. أية هزة حلّت بهؤلاء المداميك الحزبية حين انهار سعيد تقيّ الدين في حفرة من جزيرة نائية؟ قيل لي بأن توفيق الأشقر، كاد يلحق بسعيد من شدة الحزن عليه، وأنا أصدق ذلك لأنه كان أقرب إليهم من أنفسهم.
وعلى المطار، وأنا أهمّ بمغادرة المكسيك اقتربت إليه، أقبلّه فردّني بعصبية: وهتف بصوت مختنق، شعرت أن دموعه فيه: «سلّم على البلاد… سلّم على والدك!»، وامتلأت عيناي بالدمع. ولم ألتفت اليه، وهدرت الطائرة، وأنا أفكر، هل يعود سعيد إلينا؟ ولكنه لم يعد، فقد أقلع شراعه إلى غير رجعة!
الرفيق أنيس أبو رافع
منذ تسع وثلاثين سنة رحل سعيد تقيّ الدين رحلته الأخيرة، قالوا مات. كلا، سعيد لم يمت، لقد انتقل من العين إلى الذاكرة.
انتقل من أبصار الألوف وأسماعهم إلى قلوب الملايين وعقولهم.
تسع وثلاثون سنة، كأنها الأمس، كأنها اليوم، أراه وأسمعه وأحادثه. تهزّني مواقفه الحاسمة، وتنشيني الطفولية وتطربني ضحكته المجلجلة.
قرأته قبل أن التقيّ به، قرأته كتاباً. وبعد أن عرفته شخصياً، قرأته كتاباً وإنساناً فلم أجد فرقاً بين الاثنين.
وقرأته قبل أن يلتزم عقيدة وينتظم في حزب… وعرفته ورافقته بعد أن التزم وانتظم، فلم أجد فرقاً كبيراً بين الحالين.
لم يكن لسعيد عقيدة واضحة متكاملة في مطلع شبابه، وحتى عودته من الاغتراب. ولكن كان عنده مفاهيم واضحة، ومواقف واضحة وآراء واضحة في كثير من شؤوننا الاجتماعية والوطنية والسياسية. وربما نستطيع أن نضيف هذه الفترة من حياته إلى تلك المجموعة التي شكّلت فجر الوعي وصباح المتحرر ومطلع النهضة: بطرس البستاني، الكواكبي، جبران، الريحاني، مي، الشدياق…
كان تكملة لهذه المجموعة الطيبة من رجال الفكر والأدب والتربية والاجتماع.
في مسرحيته الأولى، «لولا المحامي» ادانة صريحة للاقطاع والفساد. وفي «نخب العدو» ادانة للاقطاع والطائفية والعائلية والتخلف والجهل والفساد. ألم يكن زواجه نفسه ادانة صارخة للطائفية؟!
وفي مقالاته المبكرة وطنية صافية، التزام بالمسألة الفلسطينية، ونضال في سبيلها، توّجه عام 1948 بإقناع مندوب الفيلبين في الأمم المتحدة، من خلال حكومته، بإلقاء خطاب ضد التقسيم. وذلك عندما كان قنصلاً فخرياً للبنان في الفيلبين.
لا أقصد الاستطراد للتحدث عن سعيد في الحزب، بل أردت أن أشير إلى الموقف. سعيد تقيّ الدين كان صاحب موقف. كان رجل قرار. إذا اقتنع بأمر نفذّه دون اقامة أي اعتبار للنتائج. عندما اقتنع بالمبادئ القومية الاجتماعية لم يتردد في اعتناقها، وعندما آمن بها لم يتردد في دخول الحزب، وعندما وجد أن بقاءه عضواً سرياً لا ينسجم مع أخلاقه ومبادئه لم يتردد في اعلان انتمائه على الملأ.
كان يعرف سلفاً نتائج قراره، كان يدرك أن ماضيه الاجتماعي والسياسي وحتى العائلي قد ينهار كله أو أكثره. علاقاته التي بناها كل حياته، صداقاته، مركزه الأدبي، حتى أعماله التجارية والمالية…كان يعرف انها كلها مهددة، ومع ذلك أقدم.
وصلت إلى نقطة اللارجوع».. كانت كلمته الأولى… ولنصرك يا سورية هذا القليل… كانت كلمته الأخيرة.
بعد إعلان انتمائه إلى الحزب، تخلى عنه من كان يمدحه كل يوم، ويمجّده كل يوم. اقفلت في وجهه الأبواب التي كان أصحابها يتمنّون لو يدخلها، شنّت عليه الحملات القاسية، الظالمة، حتى بعض انجازاته الكبرى لجنة كل مواطن خفير، نادي المتخرجين… حاولوا أن يسلبوه اياها.
لماذا فعلوا كل ذلك؟
لأنه تجاوزهم جميعاً، كان الوحيد المنسجم مع نفسه، الصادق أمام نفسه وأمام الآخرين.
حاربوه وانتقدوه وهزئوا به، لأنه كشف زيفهم، عرّاهم. كشفهم عندما كشف عن جبينه الناصع الشامخ، وكشف عن جبينهم الذي فقد ياءه.. فتجسد جبناً وحقداً واستسلاماً.
حاولوا تحجيمه وتغييبه، كما حاولوا وعملوا على تحجيم الزعيم المعلم… والحركة القومية الاجتماعية بكاملها.
نحن هنا، منذ سبع وستين سنة، نعمل على إقامة نظام جديد لهذه الأمة ليس فيه اقطاع من أي نوع، ليس فيه طائفية ولا طبقية ولا عشائرية، ولا تسويات آنية وترقيعات على حساب مصلحة الأمة والوطن، نظام ليس فيه فساد ولا تخريب..
ونحن منذ سبع وستين سنة نرفض ان يقرر الاجنبي مصيرنا، أو ان يتدخل في شؤوننا، نحارب حتى الموت عدونا الأكبر والدائم اليهودية والصهيونية، نقف ضد كل مشروع لا يراعي مصلحة أمتنا وسلامة أراضي وطننا من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن أول الشرق إلى آخر الغرب.
ونحن نعرف أن بلادنا كلها محكومة بالفساد والاستسلام والاقطاع والطائفية والطبقية.. وو.. إلى آخر ما ذكرناه، فكيف نستغرب اذا حاولوا تحجيمنا، بل ابادتنا؟!
وسعيد تقيّ الدين واحد من المع وأنبل رموزنا وأبرزها بعد المعلم الزعيم، فمن الطبيعي أن يكون هدفاً لهذه الحرب الشرسة عليه. ولكن.. ولكن، كل فؤوس الأرض لا تمنع شجرة أن تنبت!
أودّ هنا أن أقف لأروي قصة قصيرة: عام 1967 داود عبد الرزاق، فلسطيني، مدرّس عندنا في ثانوية الأرز النموذجية 4 ، ناصري حتى العظام، يكره الحزب القومي ويتهمه بالعمالة والشعوبية.. إلى آخر المعزوفة. ذهب إلى قريته في فلسطين في عطلة الفصح، ومرض فبقي إلى ما بعد الهزيمة حزيران 1967 . رجع إلى المدرسة أوائل تموز، دخل عليّ في المكتب، ومن دون سلام ومن دون مقدمات قال: كانت قريتي مقسومة قسمين يمرّ في وسطها شريط شائك يفصل فلسطين المحررة عن فلسطين «إسرائيل». دخل الجيش «الإسرائيلي» القرية، لم يؤذ أحداُ، لم يعتد على أحد.. ولكن هناك ستة أو سبعة منازل لقوميين، دمّرها. ومن وجده من أصحابها صغيراً أو كبيراً قضى عليه… ثم أحرق المنازل وسوّاها بالارض. أستاذ، انا هنا الآن لأعتذر عن عدائي لكم طيلة هذه السنين. نحن ضحية غسل دماغ رهيبة.. سأكون من اليوم داعية لكم، لأكفّر عن أخطاء الماضي.
أتمنى أن يكون الصديق الاستاذ نجيب البعيني بيننا، علّه يقتنع بأمرين: الاول أن سعيد هو مؤسّس ومحرّك «لجنة كل مواطن خفير»، وأنّ سعيد تقيّ الدين يستحق أن يُسمى شارع بِاسمه، هو الذي ملأ اسمه شوارع الدنيا.
وسعيد تقيّ الدين رجل الفعل، إضافة إلى الرجل القرار ورجل الاستشراف.
لقد مارس في حياته العملية كل ما دعا اليه في كتاباته الأدبية والساسية والاجتماعية وسواها.
لا يكتب بعقله فقط ولا بعواطفه فقط ولا بعلمه ومعلوماته فقط.. سعيد يكتب بكلّيته: بمجموعة… حتى يخيل اليك أحياناً انه لا يمسك القلم بين اصابعه بل يمسكه بين أضلاعه.
إنك تراه، ترى شخصية سعيد وسلوكه وأخلاقه وأفكاره وممارساته في كل ما يكتب. هو هو، في قصصه، في مسرحياته، في رفات جناحه، وخفق اجنحته اجنحتنا في مذكراته وذكرياته ورسائله. في جده وهزله، في خطبه وخطاباته ومحاضراته.
إقرأ مسرحية، اسمع خطاباً، ثم اقرأ قصة، ثم اسمعه يتكلم، حادثه، حاوره، ناقشه، راقبه كيف يتصرف تراه هو…هو، منسجماً مع نفسه حتى الصفاء المطلق، لا يتردد في الاعتراف بخطأ، لا يخشى في الحق احداً او شيئاً، قلبه على لسانه، وعقله على قلمه.
قصتان من حياته أسمح لنفسي أن اكررهما في كل محضر ومجلس، إحداهما تعبّر عن أخلاقه والتزامه: بعد دخوله الحزب، حورب في لقمة عيشه، فمنعت عنه الالتزامات من الدولة وتوقف شغله كلياً. جاءه ذات يوم شريكه ميشال سماحة مبشراً: سعيد. فرجت!
ـ خير
ـ وجدنا مصدراً للرزق يغنينا في وقت قصير
ـ ما هو؟
ـ بضاعة نشتريها من قبرص بسعر بخس جداً، ونبيعها هنا بسعر جيد.
ـ ولماذا سعرها بخس؟
ـ بيني وبينك، البضاعة «إسرائيلية»، ولكن معها شهادة منشأ قبرصية.
ـ جنّيت يا ميشال، أنا أقبل؟ وبعد بدّك ياني روّج بضاعة يهودية، أدعم الاقتصاد «الإسرائيلي»؟
ـ سعيد، ما فيها شي، المسألة قانونية ماية بالماية، ضمن القانون!!
ـ ميشال، بنات الهوى في السوق العمومي ضمن القانون، ابعث اختك إلى هناك!!
والقصة الثانية تعبّر عن روحه المرحة الرائعة حتى انه يفشّ خلقه بالنكتة:
كان يحب الدكتور شارل مالك، ويحترمه كثيراً، وعندما ترشح للانتخابات في الكورة تصرّف كأي «شمدص جهجاء» كما يقول سعيد: لقد انحدر إلى أسفل الدركات، في تصرفاته… كأي مرشح أميّ، كأي متزعم لا يقيم وزناً للديمقراطية ولا للأخلاق السياسية. فثارت ثورة سعيد ضده وراح ينتقده بقسوة. وأخيراً عبّر عن موقفه منه بهذه النكتة: دخلت امرأة إلى مكتب شارل مالك الانتخابي في الكورة ومعها ولد صغير، وطلبت أن ترى الدكتور. فسألها احدهم:
ـ ماذا تريدين منه؟
ـ هالصبي مريض من يومين، بلكي بيفحصو؟
ـ يا ستّي، الدكتور شلرل مالك مش دكتور صحة. الدكتور شارل دكتور فلسفة.
ـ خلّي يفحصو للصبي، بلكي معو فلسفة!
وأخيراً لا اجد تعريفاً بسعيد أروع من قوله: عندما كنتُ صغيراً أويت فراش أبي، فقال لي لا ترقد بجانبي إلا وأنت نظيف اليدين، وأمس زرت قبره فسمعته يردد، لا ترقد بجانبي إلا وأنت نظيف اليدين.
سعيد تقيّ الدين، يا رفيقنا العظيم، أنت آخر العمالقة في هذا القرن!
هوامش:
1 عساف أبو مراد: للاطّلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى قسم «من تاريخنا» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.
2 توفيق الأشقر: للاطّلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى قسم «من تاريخنا» على الموقع المذكور آنفاً.
3 جليل رحباني: للاطّلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى قسم «من تاريخنا» على الموقع المذكور آنفاً.
4 ثانوية الأرز النموذجية: للاطّلاع على النبذة المعممة عنها الدخول إلى قسم «من تاريخنا» على الموقع المذكور آنفاً.