مشغل الأشقّاء عسّاف… متعة ما بعد النحت

رنا صادق

بعيداً عن الجوّ اللبناني المشحون بين الشعب والسلطة، وبعيداً عن الوضع المعيشي المتدنّي لدى الشريحة الأكبر من اللبنانيين، وبعيداً عن تراجع الوضع الاقتصادي، لا بدّ من تسليط الضوء على المواهب الشابّة التي أثبتت وتثبت دائماً مقدرتها على النجاح في أجمل الفنون وأصعبها.

منصور، عساف وعارف عسّاف، ثلاثة أشقّاء أسّسوا مشغلاً سمّوه «محترف عسّاف»، ومن خلاله ينضمّون إلى هذه الفئة الشابة بدرجة امتياز وجدارة، وذلك في نحت الأحجار.

هناك، على مشارف الشوف، يقودك «مشغل عسّاف للنحت» إلى عالم آخر، عالم تسقط فيه معاني الحرب والإرهاب كلّها، وينساب السلام إلى قلوب الزوّار، مرفقاً بهيبة المنحوتات التي تحكي كلّ واحدة منها حكاية. منحونات هنا وهناك، تماثيل تجلّت بأبهى الصور. وفي ظلّ التخبّطات التي تعيشها المنطقة يبقى الإنتاج الفنّي المتنفّس الأسمى وشبه الوحيد لتنقية الفكر والروح.

بدايةً، تحدّثت «البناء» إلى منصور عسّاف، الذي تناول بالتفصيل عن فكرة المشغل، وكيف بدأ مشواره وأخويه مع النحت. فيعتبر أنّ الفنون كلّها هي تعبير عن الأنا لا النحت فقط. إذ إنّ الفنّ يجسّد الأنا الفردية بتأمّلاتها ورغباتها، ويحوّلها إلى أنا جماعية تتحوّل من وجود بالقوة في الفكر إلى وجود بالفعل، لتصبح الفكرة عملاً فنياً مُلْكاً للإنسانية جمعاء.

ينحت الأشقّاء الثلاثة الحجر، ويعبّرون عن ذواتهم ضمن دائرة المجتمع بأشكال مختلفة. اكتسبوا هذه المهنة من الوالد كامل عساف، وبدأوا العمل في فن العمارة كمهنة النحت والبناء بالحجر، ثم نحوا إلى مجال النحت المعماري والزخارف والنقوش، ملتزمين الحفاظ على التراث، وخصوصاً الطابع التراثي اللبناني، إلى أن اكتشفوا قدرتهم على التصميم والهندسة والنحت والتشكيل ونحت التماثيل، ومن هنا جاءت فكرة المشغل.

وبالحديث مع منصور عسّاف، أشار إلى أنه وأخوته طوّروا العمل في مجال فنّ نحت التماثيل والمنحوتات الحجرية عبر إنشاء مشغل ومحترف للفنون، وذلك في قطعة الأرض التي يملكونها في بلدة الورهانية ـ الشوف، وسرعان تحوّل «محترف عسّاف» إلى موقع سياحيّ يندرج ضمن السياحة البيئية، الثقافية والفنية.

ويضيف: إنّ هدف المحترف التعرّف إلى النباتات والأشجار الموجودة، وذلك بالأسماء العلمية لها باللغات العربية واللاتينية والإنكليزية مع QR code لكلٍّ منها، وذلك بالتعاون مع مركز حماية الطبيعة في الجامعة الأميركية في بيروت، إضافة للتعرّف إلى كيفية بناء البيت القروي البيئي المبنيّ من الحجر العقد، والسطح من التراب، وكيفية استخدام المواد الطبيعية في البناء، ومعرفة مراحل التشكيل الفنّي على الطين وصبّ التماثيل على الريزين، ومراحل النحت على الحجر.

وأشار منصور إلى أنّ النحات في لبنان يواجه صعوبات عدّة، أوّلها تكاليف المادة التي يعمل عليها، ثمّ المنافسة مع الآلة أو التكنولوجيا الصناعية، إلى المواد الاصطناعية المختلفة التي أصبحت منافساً فعلياً للحجر والخشب كمادة للتعبير، إلى الموضوع أو الفكرة وهي الأهمّ من ناحية أنّ النحّات يُفترض أن يساهم في كتابة التاريخ وفي تجسيد الواقع لحفظه من أجل الأجيال الآتية كما نلاحظ في الآثار التي حملت تاريخ الأقدمين. ولكن الظروف اختلفت وانتقلت المهمة إلى التكنولوجيا بشكل واسع، وضاق النطاق على النحّات للتعبير في هذا الاتجاه، وانتقل إلى التعبير عبر الفنّ الحديث بأشكاله كافة، خارج نطاق الواقع.

تبدأ الجولة في ممرّات وأدراج من الحجر بين الأشجار للتعرّف إلى النباتات والأشجار والتعرّف إلى أعمال نحتية بأسلوب جديد ذات بُعدٍ عالميّ على الحجر تدمج الواقع بالتجريد، ومنها إلى المحترف حيث تولد المنحوتات والتماثيل، ومنه إلى داخل البيوت المبنيّة بالحجر والأسطح الترابية والأسقف من الخشب والقصب ومفروشات من الحجر والخشب المستعمل، إضافةً إلى ممرّات تؤدّي إلى الطابق السفلي المبنيّ من العقد حيث المتحف الذي يتضمّن تماثيل من الرخام والبرونز والريزين، لشخصيات أدبية علمية وفنية ومجسّم للمشروع كاملاً.

يعتمد النحت المحليّ على الشكل واستنباط ملامح الجمال أكثر من التركيز على الموضوع. ولدى سؤالنا عن النوع الذي يستخدمه الأشقاء عسّاف أجاب منصور: النحت المحلي هو تعبير عن الواقع المحلي، وملامح الجمال هي الهدف المنشود في الأشكال الجمالي والانسيابي والهندسي. ولكن بالفعل أحياناً يطغى المظهر على الموضوع. وهنا لا بدّ من التوضيح أنّ دور الفنّ يقع في تجسيد الواقع بطريقة جمالية، ولكن المضمون يمثّل المساهمة في تطوير وعي الانسان حيال القيم الجمالية والتاريخية والتراثية. لذلك اخترنا الدمج بين تناقضات الفنّ في الأعمال الفنية التي نصمّمها لكي تحمل الموضوع والجمال معاً، في حين أنّ مصدر إلهامنا يبقى متمثّلاً بالطبيعة والبيئة المجتمعية.

عالم النحت واسع وشيّق، تغوص في أعماقه ولا تتردّد في التعرّف أكثر وأكثر إلى مضامينه، وتختلف آراء النحاتين حول ما إذا كانت الخامة هي التي تحدّد الموضوع، أو الفكرة هي التي تثبت نفسها على المادة. إذ يرى منصور عسّاف في هذا المجال أنّ الاستثناء واردٌ جدّاً، أي يمكن للفكرة أن تفرض نفسها، كما يمكن أن يُستوحى الجمال والموضوع من شكل الصخرة أحياناً. ولا بدّ من الإشارة إلى أن النحت على الخشب يختلف كثيراً عن النحت على الحجر، أولاً من حيث المادة لأن الخشب مادة ذات حيوية أكثر وتتأثّر كثيراً بالعوامل الطبيعية. ثانياً أنّ طريقة النحت على الخشب وأدواته تختلف.

تحتلّ أوروبا المرتبة الأولى بين القارات في احتضان المدارس الفنية وتصنيفها، وخصوصاً بعد عصر النهضة والثورة الصناعية وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وفي تلك المرحلة كان الشرق ولا يزال يتخبّط في الصراعات التي فرضت وجودها على الفنّ والمدارس الفنية التي تحوّلت إلى مستهلك للمدارس الفنية الأوروبية وغيرها. لذا إن التصنيف للمدارس الفنية في الشرق العربي ـ في معظم الأحيان ـ هو تقليد للتصنيف الغربي ،ولَم يحمل شخصية مستقلة، كما الحال بالنسبة إلى النحت.

وأخيراً، يعمل الأشقّاء عسّاف على مشاريع مستقبلية عدّة، أوّلها نحت تماثيل إضافية للمشروع، وإقامة مبنى من الحجر يتضمّن متحفاً لحفظ التماثيل وصالة عرض غاليري لاحتضان معارض للفنون، ومدرّج ومسرح، إضافةً إلى بيوت قروية عدّة لاستضافة الفنانين للسكن في المشروع والإفادة من المحترف، وصالة العرض لتنفيذ الأعمال وعرضها، كما تهدف إلى التشجيع لإقامة مشاريع سياحية مواكِبة لمشروعهم من أجل جذب السيّاح وخلق فرص عمل للمجتمع المحلي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى