مهنا قسيس… مُدَوزِن الكلمات على لحنٍ ونغم!

د. طوني كرم مطر

لا بدّ لنا من البحث مرّة أخرى عن الشعر بالعقل، ولا بدّ لنا أن نقف عند قواعد الهندسة الصوتية التي يتقنها الشاعر مهنا قسيس في كتابه «خوابي العسل» الصادر حديثاً.

هو شعر شاعر يسبح في فضاء الأغنية، يدوزن كلماته على لحنٍ ونغمٍ، يُخرج ما في قلبه من عواطف لينفخها في قيثارة محمومة تجعل كلماته ساخنةً طازجة.

كلماته، أشعاره ماء ارتطم بالماء، ونورٌ توضأ بالنور، ورموز غزليةٌ امتدّت على مساحة الكتاب، لا حواجز ولا فواصل بين قصائده، إنها باختصار قلبه وعقله وإحساسه كلّه في كتابه.

الشعر عنده صمت وإيقاعاتٌ قلبية، صمت التأمل في كل القضايا الفكرية التي شغلت باله، وإيقاعاتٌ قلبية تختصر رحلة العشق في ضباب العمر الذي يحاول أن يسرد حكاياته في قصيدة واحدةٍ موزّعة على صفحات.

يقول في القصيدة الأولى «مزروعين»:

بِ ضيعتنا مزروعين

من قبل الدّهر

من سنين…

ما بنهجر أرض العنّا

لو عشنا بأسى أو لين

بِ ضيعتنا مزروعين

قصور الضيعة

بيوت الطّين

لو نمنا حدّ البيدر!

يتبيّن لنا أن الشاعر مهنا قسيس يملك ناصية الكلمة، وهو متمرّس باللغة وقواعدها بصرفها ونحوها، ولو كانت قصيدته باللهجة اللبنانية، إلا أنه صاغها على أنغام شجية وضمّنها معاً في جميلة تدعونا إلى التشبّث بأرض أجدادنا مهما جار علينا الزمن ومهما كثرت الملمّات.

ونلاحظ في القصيدة تكرار حرفَيْ «العين» و«الميم»، كما وتكرار كلمة «الضيعة» لأنها محور القصيدة، كما أن حرفَيْ «الياء» و«النون» يعطيان نغماً وإيقاعاً «عين ـ سين ـ لين، الطين ـ كوانين ـ مزروعين ـ حنين ـ التين ـ ياسمين».

إذن، ينسجم البناء الموسيقي ويتكيّف بحسب أغراض القصيدة، فالتنسيقات الصوتية هي في خدمة هدفه، وتكرار كلمة «مزروعين» أربع مرّات له دلالته للتأكيد على أننا مزروعون في أرضنا، وبعد كلّ عبارة «بِ ضيعتنا مزروعين»، ويعدّد الشاعر الصعوبات التي تعترض القروي في معيشته ومع ذلك «بِ ضيعتنا مزروعين».

هذه القصيدة تؤكّد ثقافة الشاعر، ورفضَه المطلق مغادرةَ «الفاكهة» قريته، وهو في الحقيقة لم يتركها أبداً، وهو بذلك يرفض تجزئة الوطن الواحد، ويرفض طمس معالم القرية، ويذكرنا ببيوت الطين والبيدر «بيوت الطين حد البيدر لزّاب وزعتر التين زيتون تراب مشمش عريشة قده للنار إلخ…».

ووصل تمكّنه من اللغة إلى استغنائه عن أدوات الربط لتكون مضمرة. مثلاً: «في ضيعتنا مزروعين ـ قصور الضيعة ـ بيوت الطين ـ لو نمنا حدّ البيدر»، فهنا تختفي واو العطف في المقطع الأول.

كلماته، جمله، عباراته متماسكة مترابطة في وحدة موضوعية. والعشق عنده ليس محصوراً بالمرأة بل عشق للقرية ولكل ما فيها، عاشق الطين والموقدة، ولكل هذه التفاصيل.

يغوص مهنا قسيس في شعره كلّ إحساس فينا لأن القرية والحبيبة عنده عشق أبدي سرمدي.

الغزل عنده غزل صادق يأخذنا من المعنى الاعتيادي للكلمات إلى توهّج في ذاكرتنا القروية، يمسك بعقلنا وأحاسيسنا ليعيد تنظيم عبورنا إلى الذاكرة من جديد، عندما يقول :

والحلم فينا

ما احترق…

وقدّيش حلوة الشيطنة!

كنّا بعمر الولدنة

نكتب أسامي عالشجر

نرسم على الرّمل الصوَر

نلعب «ببَكَرة» من خشب

وبحجار شو نرسم لُعَب

ما في زعل

ما في عتب

كانت طفولتنا دهب!

فرغم أن موضوع الذكريات والقرية وألعاب الصبا فيها قديمة إلا أن الشاعر هنا رفعها إلى سوية الإبداع، فقد جعل مهنا كلّ الماقبل مابعد، وأحيا بكلماته ماكان مخبوءاً في الذاكرة والوجدان.

يتأكّد لي أن الشاعر لا يستطيع أن يعبّر عن نفسه إلا بلغته وثقافته ومخزون الذاكرة عنده الماقبل يصبح مابعد المابعد.

إذن، يمضي الشاعر مبحراً بصوَر صوتية وإيقاعات، يمضي يصنع الصوت والصمت، الصوت عنده صمت، والصمت كلام، والكلام إيحاء، والإيحاء تأويل، والتأويل علم لا علم لأحد به غير المتمرّسين بالنقد والشعر معاً.

لقد تمكّن مهنا من الربط بين البناء اللغوي والإيحاء الموسيقي في خدمة الكلمات والكلمات في خدمة الموسيقى.

الشعر إيحاء والتزام بالفكر، وكل قصيدة من كتابه كتاب ذكريات عن أحلام وماضٍ لن يعود.

مهنا قسيس قبل أن يكون شاعراً كان صاحب قدرات مسجونة في روحه، أخرج بعضها في شعره وما زالت القدرات الأخرى مسجونة قبل الزمن حيث يقول في قصيدة «قبل الزمن»:

قبل الزمن ما يبتدي

كان الحلم

قطر النّدي

مسافر عَ زهر من الحنان

واصل لعندك يهتدي

قبل الزمن ما يبتدي

من حرف أوّل أبجدي

كنتِ الزمن!

وفي الختام، نؤكّد أن النصّ الشعريّ عند مهنا قسيس غارق في مكان بعيد جداً، غارقٌ تحويلاً وتأويلاً، إنه الغزل إنه الوطن، إنه الإيمان، إنه العدم، إنه انتظام للانهيارات، إنه أصالة قروية، إنه جزيرة مملوءة بالأزهار والرياحين، إنه ذاكرة جيلٍ لم يعرف إلا الحرب، الهجرة القسرية، الاقتلاع، التشرد، والموت.

إن الشعر عنده فلسفة والفلسفة أمّ العلوم، لا اكتمال عنده لأيّ قصيدة بل فتح آفاقٍ جديدة على عالمٍ من رؤى وأحلام.

عالم القصيدة ليلٌ ومصباح، صمتٌ وكلام، بوحٌ وكتمان، سجنٌ وحرية، ماضٍ ومستقبل، شعره غيمة مضطربة قلقة تخاف أن تنام إلا في أحضان السلام، شعره ضوءٌ وبعضٌ من كلام، وبعض خروج عن النظام، كل هذه التناقضات تلتقي في «خوابي العسل»، والعسل عنده أصواتٌ للألوان، وألوانٌ للحروف، وحروفٌ للصمت، وعند الشعراء لا فرق بين الصوت والصمت فكلاهما تعبير عن شعور حيث يغيب المكان في المكان والزمان في الزمان، فتنقلنا الرغبة إلى رفوف العصافير، إلى صراخ أبديٍّ أزليٍّ يضجّ في دواخلنا حتى الموت. ومن قال إن الموت انتهاء؟ الموت انقضاء أيام، ولكن للموت صوتاً لا يعرفه إلا من اختبروا الحياة والموت معاً.

للموت انتهاء، كما للقصيدة، الحياة شعر إحدى محطاتها تسمّى قصيدة، والقصيدة رسمٌ وإيقاعٌ وإبداع.

الشعر عند مهنا قسيس يخلط الفكرة الواحدة مع كل متناقضاتها كل قصيدةٍ عنده تبحث عن ذاتها ترغب في إثبات شخصيتها.

قصيدته تُحدث انفجاراً تلو انفجار، وكلما قرأت قصيدة تأتي أخرى لتدمّرها وتبعثر ما قبلها.

شاعر وناقد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى