«الدكتوارة الافتراضية»… ما لها وما عليها!

فيينا ـ طلال مرتضى

لعلّي اليوم أفتح باباً في وجه العاصفة، وهذا ما سيجعلني والريح وجهاً لوجه من دون أي مواربة. أعلم تماماً أن هناك عدداً ممن لن يعجبهم كلامي، لا من باب التجني، بل بسبب اقترابي من خطّ غلب لونه إلى الأحمر، وهذا ما يجعل الأمر مغرٍ بالنسبة إليّ، فكل الخطوط الحمراء من دون شكّ لها رائحة مميّزة عن غيرها من الأبيض أو الأخضر، ودائماً تصبغ برائحة العفونة والدسائس، وإن ألبسوها اليوم لوناً مخاتلاً ومصطلحاً تكتيكياً، كـ«المنطقة الخضراء». فتلك المناطق الخضراء المموّهة لمآرب أخرى على مبدأ المثل، حقّ يراد به باطل.

لا ضير بهذا ولا بذاك، ما دمت قرّرت الولوج في هذا المحور، فلا بدّ لي من الاستمرار لوضع بعض النقاط على الحروف، وفتح كل الملفات فوق الطاولة، ليبدأ اللعب على المكشوف، وهذا لم يعد عيباً، ومجتمعنا العربي بدأ التأقلم مع الحكاية، بدءاً من التراخيص التي تمرّرها الحكومات لممتهني حرفة الدعارة، كحرفة فاعلة اليوم وعلى عينك يا تاجر في بلداننا تحت عيون الحكومات، وأقول حرفة لأن الكثيرين صاروا يمتهنونها كعمل يوميّ مثله مثل أيّ عمل. وحتى الحكومات لا تخجل من أن تعطي هذه التراخيص التي تسمح باستجلاب نساء أجنبيات تحت مسمّى فنانات، أي راقصات ومطربات وهن في الأصل مومسات.

وبالطبع ليس هذا ما قصدته من المقال، ما أريد التحدث عنه، أمر مشابه تماماً لِما تحدّثت عنه أعلاه، وأقصد هنا بالمواخير الثقافية والتي درجت في الآونة الاخيرة على نطاق واسع، وتحديداً في دول الشرق الاوسط ومصر، ما حدا بالامر خروجه من طور الممارسة العادية إلى المنافسة بين ماخور ما وآخر.

بعد بحث مطوّل وجمع كثير من الوثائق والتصاوير وغيرها، آن الوقت للكلام بصوت عال من خلال السؤال: إلى أين تودّ الوصول تلك المواخير ومشغّلوها بِاسم الثقافة وإفساد جيل كامل والتأثير السلبي على المؤسسات العلمية الوطنية والتي بدأت شهاداتها بالتأثر نتيجة الهجمة الشعواء من تلك المواخير؟ لم أجد تسمية مرادفة ل تلك الكنتونات الا كلمة مواخير، وهي بدعة اشتغل عليها كثيرون من المتقاعدين من مفرز الحروب التي عصفت في منطقتنا، والذين وصلوا إلى دول بعيدة تعطي حيّزاً إعلامياً أوسع مما كانوا يحصلون عليه في بلادهم.

وبدأ هذا بعد وصول عدد من ممتهني الثقافة بعد سقوط بغداد، وبحكم وصول هؤلاء المتقاعدين إلى أوروبا مع دفاتر الدولارات الكثيرة، أسسوا ما يسمّى منتديات ثقافية وروابط وملتقيات، تحت شعارات ومسميات عدة، تُظهر وجهاً سلمياً وأنيقاً لهؤلاء، بدءاً من الحديث عن افتعال جسور ثقافية بينهم وبين الوطن الأمّ ومنهم من لعب على وتر الامن والسلام، لما تعنيه هذه الكلمة من صدى في أوروبا. وبالطبع لم يكن هذا سيئاً بالمطلق، فبعض تلك المنتديات بالفعل استطاع ترك بصمة لافتة ولم يزل، لكن الامر تفاقم إلى حد التدرّن، فأصبحت الحكاية عملَ من لا عمل عنده. فهنا في أوروبا يمكن لأيّ شخص ترخيص ماخور ثقافي في يوم واحد بعد دفع الرسوم، لنجد بين عشية وضحاها، تراخيص لجامعات على الورق، ومراكز ثقافية وروابط وغيرها من المسميات فقط على الورق، ليس لها أي مقر على الارض، والوسيلة الاعلامية الخاصة بها صفحة «فايسبوك» أو مدوّنة على «بلوغر» تحت مسمّى مجلة للمنتدى الفلاني.

أيضاً بدأ الأمر يظهر في مصر بعدما سمحت الحكومة المصرية لبعض الكتّاب بتأسيس روابط أو «شلليات» تربطها حجّة المكان أو المصالح. فنجد كل يوم أننا في حضرة اتحاد جديد لا نعرف رأسه من رجليه، لينتقل الوباء سالفاً إلى سورية وخصوصاً بعد دخولها الازمة، حيث نجد في دمشق وحدها أكثر من عشرين ماخوراً ثقافياً يتخذ من المقاهي ملاذاً.

بالطبع هذا ليس خفيّاً على أحد، لا أحد يخجل من أصحاب هذه المقاهي بأنه صنع هذا الكاتب أو الكاتبة، فقد تحدثت عن الامر في مقال سابق وتلقيت ما تلقيت من الوعيد والرعيد لدرجة وصول الامر للتخوين كوني موجود في أوروبا، وتركتهم يكابدون الحرب وحدهم، لعل في الامر شيء من الصحة لا أدري ان كان نصف الشعب السوري خائن في عيون هؤلاء المتنمرين، فالامر بالتأكيد لم يضيرني.

ما أنا في صدده الآن، حكاية «شهادات الدكتوراة الفخرية» التي توسمها تلك المواخير لهبّ ودبّ من الناس من دون رادع، أو من دون وازع أخلاقي يحدّهم أو يردعهم، وبأنهم يكسرون الشهادات العلمية الوطنية أمام هذا الدفق الكبير من تلك الشهادات.

من المتعارف عليه أن هذه الشهادة هي: تقدير يمنح لشخصية عامة ذات مكانة اجتماعية أو سياسية هامة في غالبية الأحيان، وذلك تقديراً لعملٍ إنسانيّ أو موقف إيجابي قام به. وهي ليست شهادة مرجعية ولا تؤهل حاملها لاستعمالها أكاديمياً. وعليه، فإن اضافة اللقب إلى اسم حاملها غير مقبول وغير جائز البتة. وكذلك يمكن للجهة المانحة سحب هذه الشهادة. وقد حصل ذلك بالفعل مع سوزان مبارك من الجامعات المصرية ومعمر القذافي من جامعة الخرطوم.

ما من مشكلة ان تتقدم مؤسسة ذات باع ثقافي على الارض وتوسم من يستحقون بتلك الشهادات، لكن من خلال متابعتي وجمعي عدّة مستمسكات واعترفات البعض حول تلك المؤسسات الوهمية، لم أتلمس لأيّ منها أي فعالية علمية أو ثقافية. وجلّ الحكاية أنها تدار من قبل عدّة أشخاص، ربما يكونون معاً وربما يكونون في بلاد متفرغة يربطهم «الماسنجر»، ليصير إلى توزيع تلك الاوراق التي لا تشبع ولا تسمن من جوع. فالظرف مؤاتٍ جداً لتنامي تلك الخزعبلات في ظل الاوضاع التي تعبرها البلاد.

الأسئلة التي سأطرحها الآن برسم تلك المؤسسات ومشغّليها، تحتاج جواباً شافياً، يقنع الجمهور الذي سيكون الحكم: ماذا قدّمتم على الارض؟ ما هي الفعاليات التي قمتم بها في الداخل والخارج؟ هل أرسلت إحدى تلك المؤسسات مبدعاً ما كي يكمل تحصيله العلمي في جامعة ما؟ هل لتلك الجامعات التي حصلتم على تراخيصها تواجد حقيقي غير عناوين بيوتكم في أوروبا؟ من منكم لديه مقرّ غير المقاهي التي تستأجرونها لإقامة أمسية شعرية في أحسن الاحوال؟ على أيّ أساس تهبون تلك الشهادات والأوسمة الذهبية؟ من لديه أيّ جواب فليردّ على العلن، وبالتأكيد نحتاج إلى شيء ملموس، الكلام في الوطنيات والضرب على الوتر الناعم لم يعد يجدي.

وهنا، لا بدّ من الاشارة والتي سأفندها حسب كم الشهادات الصفراء التي أحصيتها من مواقع التواصل الاجتماعي والذي وصل حداً مخيفاً خلال الاشهر الماضية، حيث تجاوزت حصة سورية وحدها «50» شهادة صفراء ووسام تنكيّ مذهّب، «مُفَتْشَب» من الدرجة الاولى. وكان للحسناوات حصة الأسد منها والتي تجاوزت 99/100، هذا عدا ما حصلت عليه بعض الصديقات في لبنان والعراق.

لا أدري ما ثمن تلك المكرمة التي حلّت على أديباتنا بشكل فجائي، لدرجة أن أحداهن اتصلت بي تسألني، وهي معلّمة تكتب بعض الخواطر والنثريات، عن ماهية الدكتوراة الفخرية التي حصلت عليها عبر علاقة «فايسبوك»، ليس إلا.

خلال بحث المضني، تتبعث حركة تلك الشهادات بين الواهب والموهوب، وكي لا أصهل في البعيد، فتحت مضمار اللعب في دائرتي بدءاً من كوكبة أصدقائي أو بالاحرى صديقاتي اللواتي حصلن على مكرمة الدكتوراة الفخرية المذكورة آنفاً. أولاً، لم ولن أنفي حضورهن الجمالي وحُسن صوَرهن على مواقع «فايسبوك» وهذا مربط الفرس، وهي الخطوة الاولى على خط الدكتوراة، أقول: البعض منهن ليس لديهن أي منجز أدبي مطبوع والاخريات ربما لديها مجموعة شعرية أو غيرها، وهذا لا يضير ان تحصل على الشهادة لو هي قدمت بحثاً علمياً، أو دراسة لحالة لها مردود ثقافي، كل ما يملكن من واجهة ثقافية أو أدبية فهي موجودة على صفحاتهن على حساب «فايسبوك».

أسئلة جمة لمن هم أقرب إلى مشهديتنا الثقافية والتي وددت أن أختم بها هذه المقالة. سأتركها برسم تلك المؤسسات التي أوسمت الدكتوارة الفخرية لعدد كبير من السوريات والعراقيات واللبنانيات. ومن هذه المنبر أتوجه إلى الاديب الفلسطيني غازي أبو كشك بالسؤال عن المعايير والاجراءات التي تم من خلالها منح عددٍ من تلك الشهادات عبركم؟

لاسمك الكبير وقامتك الادبية والوطنية أقول لك: يا سيدي جلّ من وسمتهم بالدكتوارة أصدقاء لي وتربطني بهم معرفة مباشرة واقعية، ونجلس معاً يومياً. وسؤالي: هل من تمنح لهم هذه الشهادات يتمتعون بمميزات تؤهلهم لنيل هذه الدرجة، ولهم مسيرة مميزة ومصداقية في المجتمع في مجال العطاء الإنساني أو الأدبي، أو العلمي؟

ما يحصل هو مسرحية تسيء إلى مسيرتك كأديب ورجل دولة، وإذا وددت الحصول على أي معلومات لا ضير أن أنشرها علناً، من المعيب أن تحصل عدّة فتيات من نقطة جغرافية واحدة بعينها في سورية شهادات موقعة بِاسمك، لأديبات كما وصفتهن، لا حضور لهن الا على صفحات «فايسبوك». أعتقد أن الامر يحتاج إلى برهة تفكير.

كذلك ما يسمّى «البيت العراقي في الهند» الذي أتخم الساحة بالهبات الفخرية الى حدّ لا يطاق، في حين أصبح له في دمشق أديبات مريدات يحسبن على المشهدية الثقافية السورية الرسمية.

وكما الحال في ما يطلق عليها «الجامعة البريطانية العربية» و«منظمة الفرات للسلام» وألف رابطة مصرية، سوف أسميها حرفياً في المقال التالي والذي يتضمّن صوَراً لشهادات الدكتوراة وسيَراً مقتضبة عنها وعن الموسومين.

إنّ هذا ما هو إلّا جزء من انهيار تام للمنظومة الثقافية في العالم العربي. فقد بات مثل هذه الألقاب كمثل الباشاوات في عهد الملكية في مصر. وتحضرني هنا، قصة واقعية حصلت حين دعا الملك فؤاد باشوات مصر، فحضروا جميعهم من جميع أنحاء مصر راكبين على الحمير. وقد لفت نظر الملك عدد من الرجال واقفين، فسأل عن سبب وجودهم. فأجابه سكرتيره: إنهم باشوات يا مولاي… لكن لم يعد هناك حمير في مصر!

كلمة أخيرة: لست حارساً على الثقافة أو أمين سرّها، لكن بلغ السيل الزبى ففي الجعبة ما يسقط قامات أدبية كبيرة من محادثات «فايسبوكية» وغيره.

اِفعلوا ما شئتم ولا علاقة لأحد بكم، لكن تأكدوا أن أولادكم سيذهبون في يوم ما إلى الجامعة للحصول على شهادة لا قيمة لها بعد أن زرعتم «فايسبوك» بتلك الشهادات الصفراء والمعروف ثمنها وكواليسها ودهاليزها.

اللهم إني قد بلغت، فلا خجل من اليوم وصاعداً… الفضاء مفتوح للجميع، من يستحقّ سوف نباركه ونصفّق له، ومن لا يستحق سوف نتحدّث عنه وعن الثمن الذي دفعه ليكسر به شهادة ابنه الذي سهر وتفقّأت عيناه في الدراسة.

أنا لا أخجل منّي لست بريئاً بما فيه الكفاية، ولعلّ البعض يتساءل من باب الفضول، لماذا لا تدع الخلق للخالق، وتترك الناس «تتسبّب» على قول أهل السوق، سأقولها من الآخر: أما من مؤسسة من تلك المؤسسات تهبني واحدة من تلك الكرتونات المفبركة بعناية؟

ـ ولو طبّاخ السم يذوقه.. يا جماعة كلكم نظر.

أعتقد، يحق لي كوني أدير موقعاً إلكترونياً له حضور، بأن أطبع عدداً من تلك الشهادات وأهبها لمن أشاء ما دام الأمر كله في النهاية «افتراضٌ بافتراض»، فالترخيص الذي لديّ يخوّلني تأسيس محطة تلفزيونية، ألا يخوّلني أن أهب وأوسم؟

رئيس تحرير موقع «شطرنج للإعلام»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى