وثيقة حماس… سير على خطى المنظمة؟

راسم عبيدات ـ القدس المحتلة

قبل الغوص في وثيقة حماس «وثيقة المبادئ والسياسات العامة» التي وصفها رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل بأنها «تقوم على منهجية متوازنة من الانفتاح والتطوّر والتجدّد دون الإخلال بالثوابت والحقوق للشعب الفلسطيني»، فهل هذه الوثيقة تشكل تطوّراً ونضجاً سياسياً ومراجعة شاملة تتوافق مع المتغيّرات الإقليمية والدولية، ومحاولة لولوج واختراق مساحة اقليمية ودولية، تقرّ بشرعية حماس ومغادرتها لخانة «الإرهاب» وفق التوصيفات الأميركية والغرب الإستعماري، أم انها سير على نفس نهج منظمة التحرير وجماعة أوسلو؟ ولتحليل ذلك بشكل منهجي وعلمي لا بدّ من دراسة المقدّمات والنماذج العربية والفلسطينية، لكي نعرف أين ستؤول الأمور وما ستكون عليه النتائج؟ فالعرب بعد الهزيمة الكبرى في عام 1967 والتي أدّت الى استكمال احتلال ما تبقى من فلسطين واحتلال أراض مصرية وسورية وأردنية، وصفوا تلك الهزيمة النكراء بالنكسة، وعقدوا أول قمة عربية لهم بعد ذلك في الخرطوم قمة اللاءات الثلاثة، لا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف بـ«إسرائيل»، وما ان وصلنا الى القمة العربية الـ 28 التي عقدت في آذار الماضي في الأردن، قمة البحر الميت، لم نكتف فقط بالاعتراف والتفاوض والصلح مع «إسرائيل»، بل أضفنا لها بعداً رابعاً التطبيع مع «إسرائيل»، ونقل علاقات العديد من الدول العربية معها من السرّ الى العلن، وأبعد من ذلك نسعى لتشكيل تحالف معها «ناتو» عربي أميركي، بحيث لم تعد هي العدو الأول للأمة والمحتلة لأراضيها والمهدّدة لأمنها القومي، بل أضحت «أيران» هي عدو العرب والمهدّدة لأمنهم القومي ولعروش العديد من حكامها حسب ما تقرّره لنا «الأمّ الحنون» أميركا…

ليس هذا فحسب، فالجميع يعرف بأنّ غزو العراق ودماره ونهب خيراته وثرواته جاء تحت ذريعة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وعندما سمح العراق لفرق التفتيش عما يسمّى بأسلحة الدمار الشامل الوهمية، من قبل لجنة من وكالة الطاقة الذرية، والتي تتشكل بغالبية أعضائها من جواسيس للأميركان، أصبحت تريد ان تفتش ليس قصور الرئيس الراحل صدام حسين، بل مخدعه وغرفة نومه، والنهاية إعدام صدام وتدمير العراق ولا أسلحة دمار شامل ولا غيره…

في نفس السياق، فإنّ العرب السباقين الى تقديم التنازلات واستدخال الهزائم ووصفها بالانتصارات، طرحوا مبادرة للسلام في القمة العربية التي عقدت في بيروت 2002، وبقيت «إسرائيل» ترفضها وتدوسها وتركلها، وهم يرحّلونها من قمة الى أخرى، دون أيّ خطة عملية للردّ على «إسرائيل» إذا ما رفضتها، اللهم انهم يكتفون بترحيلها والتشبّث بها مع الهبوط بسقفها لكي تقبل بها «إسرائيل»، وتستر لهم عوراتهم التي أصبحت حتى عارية من ورقة التوت…

وكذلك في نفس السياق فإنّ العقيد معمّر القذافي سلّم أميركا مخزونه من مادة اليورانيوم، من أجل رفع المقاطعة عن ليبيا، واعتبارها دولة «إرهابية»، وفي النهاية كان مصير القذافي نفس المصير لصدام حسين.

أما في الواقع الفلسطيني، فنحن جميعاً ندرك ونعرف بانّ فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، باستثناء قلة قليلة منها كانت تقول بأنّ فلسطين من النهر الى البحر، ولا تنازل عن ذرة تراب منها، ونفس لاءات القمة العربية في الخرطوم، ولكن بعد حرب تشرين الأول/ اكتوبر «التحريكية» في عام 1973، كان برنامج النقاط العشر، وإقامة الدولة الفلسطينية على أيّ جزء يتمّ تحريره دون التفاوض مع «إسرائيل» أو الاعتراف بها، وبعد ذلك كان اعلان الإستقلال «الوهمي»، واعلان قيام دولة فلسطين على الورق، وتبع ذلك الإعتراف بقرار مجلس الأمن الدولي 242، وحصر «الحق» الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ثم جاءت قضية مدريد والاعتراف المتبادل وتوقيع اتفاق أوسلو وتعديل الميثاق الوطني، ومسلسل المفاوضات العبثية المتواصلة منذ أكثر من 24 عاماً، ولم تقم لا دولة فلسطينية، ولم تتحوّل فلسطين الى سنغافورة وجنة الله على أرضه، ولم يأكل شعبنا الفلسطيني العسل واللبن، بل ها نحن نغرق في الخوازيق بأنواعها المختلفة.

ما أشبه ما قاله مشعل في هذه الوثيقة، بما قاله الرئيس الراحل الشهيد أبا عمار، عن النقاط العشر، ووثيقة الاستقلال والكفاح المسلح وعدم التفريط بأيّ شبر من فلسطين، ونحن الآن وصلنا الى مرحلة كارثية، ربما ستكون أسوأ من أوسلو بكثير.

وفي المقابل القيادات الإسرائيلية منذ قيام دولة الاحتلال وحتى اللحظة، لم تتخلّ عن أيّ ثابت من ثوابتها، فالاستيطان هو أحد المرتكزات الاستراتيجية للمشروع الصهيوني، والذي لم يجرؤ أيّ رئيس وزراء إسرائيلي على الاقتراب منه بالدعوة لوقفه او حتى تجميده، لأنه يدرك تماماً بأنّ وقفه يعني نهاية المشروع الصهيوني، فضلاً عن أنه انتحار سياسي لمن يطرحه، ولذلك كانت التنازلات دائماً مطلوبة من العرب والفلسطينيين، لكونهم فاقدين لإرادتهم وقرارهم السياسي، ويعانون من عقدة «الارتعاش» السياسي المستديم في التعامل مع أميركا والغرب.

أنا ادرك جيداً حجم الضغوط التي مورست على حماس إقليمياً ودولياً وعربياً من أجل إصدار هذه الوثيقة بهذه الصيغة، فبلير قاتل أطفال العراق وليبيا، والمنحاز تماماً لـ«إسرائيل»، ومشيخة قطر وتركيا، كانت لهم أدوار حاسمة في صدور مثل هذه الوثيقة وبهذه الصيغة، ولعلنا نستذكر الأخبار التي تحدثت عن طلب تركيا من حماس والضغط عليها من أجل الإعتراف بـ«إسرائيل» والقبول بحلّ الدولتين، ونفي حماس لذلك، ومن ثم إقرار حماس بحصول ذلك، وقطر بحكم الجغرافيا السياسية وتواجد قيادة حماس هناك والدعم المالي، جزء أساسي في تلك الضغوط وإخراج هذه الوثيقة.

هناك بديهية أساسية بأنّ أميركا والغرب الاستعماري، ما يعنيها بالأساس بقاء «إسرائيل» كقوة مركزية في المنطقة، وكعصا غليظة تؤدّب بها كلّ عربي او فلسطيني يريد ان يشبّ عن طوق الاستعمار والمصالح الإستعمارية في المنطقة، ولعلّ ما يجري ويشنّ من حرب عدوانية على سورية، يندرج في هذا السياق، ولذلك الوثيقة عندما تتحدث عن دولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين بدون الاعتراف الكامل بـ«إسرائيل»، لا يمكن قبوله ليس من قبل «إسرائيل» والغرب الإستعماري وأميركا، بل من العرب انفسهم، وسيستتبع ذلك رفض الكفاح المسلح كشكل من أشكال المقاومة، والتنازل عن حق العودة.

وكذلك رفع اسم حماس من تصنيفها عن قائمة «الإرهاب» الغربي والأميركي يتطلب نبذ الكفاح المسلح كخيار للمقاومة وتسليم السلاح، ويستتبع ذلك مفاوضات مباشرة مع دولة الاحتلال والاعتراف بالاتفاقيات الموقعة معها.

ما جرى قبل توقيع اتفاق اوسلو من فرض حصار مالي شامل على منظمة التحرير الفلسطينية، وحتى سياسي عربياً ودولياً قاد الى توقيع إتفاق اوسلو، والآن فإنّ ما يجري من حصار وتجويع وعقوبات على قطاع غزة، وإعلان مدروس لوثيقة حماس قبل زيارة عباس الى واشنطن بيومين… مؤشران على أننا سنقف في المستقبل القريب أمام مشاريع سياسية كارثية، يجري إعدادها للقضية الفلسطينية، هي مشاريع طبخها مفاوضون مخضرمين من طراز دنيس روس وديفيد ماكوفسكي وتوني بلير وغيرهم، بمشاركة إقليمية وعربية، حلّ للقضية الفلسطينية ضمن إطار إقليمي، لن يتجاوز سقفه مشروع نتنياهو لـ«السلام الإقتصادي»، تأبيد شرعنة الإحتلال مقابل تحسين شروط وظروف حياة الشعب الفلسطيني تحت الإحتلال، مقايضة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني مقابل رشى ومشاريع اقتصادية بأموال صناديق عربية ودولية، والحلّ سيكون في إطار وعد فضفاض في المدى البعيد على أساس حلّ الدولتين، كوعود قضايا الحلّ النهائي في كارثة اوسلو القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه، حلّ سيكون عنوانه إطار اقتصادي «إسرائيلي» – فلسطيني أردني، وتقاسم وظيفي ضمن فيدرالية فلسطينية أردنية للأرض الفائضة عن حاجة الأمن «الإسرائيلي».

ولذلك أرى أنّ وثيقة حماس مهما قيل على المستوى النظري، بأنها لا تنازل فيها عن القدس ولا اللاجئين ولا الكفاح المسلح ولا الثوابت، ولكن العبرة في النتائج، فهذه القضايا قالتها فتح والمنظمة قبل ثلاثين عاماً، ونحن الآن نعبر إلى كارثة محدقة بقضيتنا ومشروعنا الوطني، أخطر من اوسلو، ولذلك المطلوب من كلّ القوى الفلسطينية، ان تضع خلافاتها ومناكفاتها جانباً، وعدم الدخول في الجدل البيزنطي العقيم، بأنّ الوثيقة تشكل نضوجاً وتطوّراً سياسيين مهمّين يواكب التطورات والمتغيّرات، دون المساس بالثوابت، او انها تشكل استنساخاً لتجربة المنظمة وتأخراً عنها لثلاثين عاماً، والسير على خطاها، فلا بدّ من صوغ برنامج وحدوي ورسم استراتيجية سياسية كفاحية موحدة تقوم على الصمود والمقاومة، ورؤية وطنية جامعة ووحدة وطنية حقيقية، فالخطر القادم أكبر بكثير من الوثائق ومن لقاءات واشنطن، او الرغبة في تشكيل البديل في التفاوض، مشروع سايكس – بيكو الجديد الذي تواجهه سورية وحلفاؤها بجدارة واقتدار، يطاولنا نحن كفلسطينيين أيضاً، ويضعنا في صلب استهدافاته التقسيمية، ويفكك القضية والمشروع الوطني ويقودنا نحو الإندثار والذوبان.

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى