الأردنيون يتساءلون…؟
د. لبيب قمحاوي
لا داعي للتكرار والتأكيد أن لا أحد في الأردن يريد أو يقبل بخراب الأردن أو المساس بأمنه واستقراره. ولكن هذا الموقف لا يشكل ويجب أن لا يشكل دعوة للحكم لفعل ما يريد وكيفما يريد ومتى ما يريد، كما يجب أن لا يشكل موافقة مسبقة مفتوحة لتجاوز أحكام القانون أو العبث بالدستور أو انتهاكه بالنص أو الممارسة تحت شعار المحافظة على الأردن وأمنه واستقراره. وبالمقدار نفسه لا يجوز استمرار أجهزة الدولة خصوصاً الأمنية والإعلامية في اعتبار الرأي الآخر أو أيّ رأي أو موقف سياسي لا ينسجم مع موقف الحكم ورؤيته، خطراً على الأمن الوطني وعلى استقرار الدولة والمجتمع من منطلق المفهوم الكارثي أنّ من ليس معنا فهو بالضرورة ضدّنا.
إنّ أكثر ما يثير الذعر هو الشعور الذي يتولّد لدى المواطن الأردني إذا ما شاءت الظروف وجمعته مع مسؤول أو مجموعة من المسؤولين الأردنيين. فالمواطن سوف يصاب بالذعر من الجهل المحيط برؤية معظم أولئك المسؤولين ومِنْ مَوْقِفِهم المتعالي والإقصائي، والاستخفاف الذي يصبغ ردود فعلهم على أيّ سؤال أو تعليق يبدر من المواطن العادي تجاه أيّ موضوع أو قضية عامة من منطلق أنهم يعلمون أكثر وأفضل وأنّ هذه الأمور لا تعني المواطن وليست من اختصاصه ولا يحق له الحديث فيها أو عنها. والواقع أنّ المرء يشعر بالفزع ليس لذلك فقط، ولكن أيضاً لعدم قدرة أولئك المسؤولين على استيعاب حقيقة ما يجري وحجم التحديات التي تجابه الوطن والمواطن وعلى افتقاد معظمهم للمؤهّلات المطلوبة لتولي المناصب التي يشغلونها أصلاً، مثلهم في ذلك مثل معظم المسؤولين الفلسطينيين والعرب الذين يشتركون معهم في تبنّي نهج الولاء الأعمى والاستسلام الكامل لإرادة الحاكم.
يتصرّف معظم المسؤولين الأردنيين بطريقة استعلائية إقصائية وكأنهم يملكون الحقيقة حصراً ويحملون أسرار الحكم في جيوبهم، وهم في واقعهم بعيدون عن هذا وذاك. فسلوكهم الإقصائي يعود في أصوله إلى الطبيعة الأمنية والانتقائية للحكم الذي لا يثق إلا بمن هو في جيب الحكم. والمواطنةُ بذلك لا قيمة لها ولا تعطي حاملها سوى الكثير من الواجبات والقليل من الحقوق، والولاء للنظام يبقى هو الأساس. وكلما ازداد الولاء وتعمّق، تحوّل ذلك الولاء إلى حقوق تفوق حقوق الموَاطنة كما يكفلها الدستور. فهؤلاء المسؤولون ينظرون إلى المنصب باعتباره غنيمة، الأغنياء منهم يريدون أن يصبحوا أكثر غنى، وغير الأغنياء يريدون أن يصبحوا أغنياء، والقلة القليلة تريد فعلاً أن تخدم بإخلاص إنْ استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
إنّ فقدان قنوات التواصل والتفاعل الضرورية واللازمة بين الحاكم والمحكوم واقتصارها على الأشخاص الموصومين شعبياً إما بافتقارهم إلى الكفاءة والمقدرة، أو باعتبارهم فاسدين، من شأنه أن يساهم في تفاقم الأمور وفي اتساع الفجوة بين الحاكم والمحكوم، الأمر الذي قد يشكل تربة خصبة للشائعات والاستعداد الجماهيري للقبول بما يجول في ثنايا المجتمع من أفكار سوداء ودعوات مشبوهة. والإصرار على عبادة الفرد والالتصاق بالنظام ومؤسساته إما خوفاً أو طمعاً باعتباره مصدر الأعطيات والمناصب والهبات دون النظر إلى التكلفة الحقيقية لكلّ ذلك على أمن الأردن الاقتصادي ومستقبله واستقراره، أمراً يبعث على الحزن والأسى لأنه يسمح للحاكم باستغلال الوطن والمواطنين تحت شعار الأمن والاستقرار والأعطيات والمكرمات.
الادّعاء بأنّ «نعمة الأمن والاستقرار» هي مُنجَزْ أردني داخلي بَحْتْ هو أمر بعيد عن الحقيقة. فأمن الأردن واستقراره هو محصلة معادلة إقليمية يقع في مركزها أمن «إسرائيل» الداخلي وأمن وهدوء حدودها الطويلة مع الأردن. إنّ تكلفة حماية تلك الحدود على الاقتصاد الإسرائيلي باهظة كونها عملية مستمرة وليست موسمية. فالخطر الحقيقي على «إسرائيل» لا يأتي من الجيوش النظامية، فهي قادرة على تدميرها كما أثبتت الأحداث، ولكن الأمن القومي الإسرائيلي يهتزّ أمام حرب التحرير الشعبية وأعمال المقاومة المنظمة أو الفردية والتي أصبح الجميع يطلق عليها للأسف صفة «الإرهاب». وهكذا، فإنّ «نعمة الأمن والاستقرار» كما يحب النظام الأردني أن يطلق تلك الصفة عليها انما هي في الواقع محصلة للموقع الجيوسياسي للأردن، وتنسجم مع متطلبات الأمن الإسرائيلي، كونها تضمن الهدوء على الحدود مع الأردن.
لا يوجد أيّ مصلحة للأردن من التدخل العسكري في أيّ قطر عربي خصوصاً سورية والعراق. الأردنيون قلقون وخائفون من التدخل العسكري الأردني في الصراع الدائر في سورية ومن عواقب ذلك التدخل فيما لو حصل. فالأردنيون ضدّ مثل ذلك التدخل ويعتبرونه ضدّ مصالحهم الوطنية والقومية. وأساس التخوّف هو الإنفراد والتفرّد والغموض الذي يكتنف عملية اتخاذ القرار في الأردن حيث لا يعلم أحد حقيقة الوضع والموقف السياسي والعسكري. وفي غياب أدوات المحاسبة الدستورية، فإنّ معارضة الأردنيين للتدخل في سورية مثلاً قد لا تكون كافية أمام سطوة قوى خارجية أهمّها الولايات المتحدة والتي قد تكون أقوى من إرادة النظام ورغبات الشعب الأردني. إنّ الخضوع أو الاستجابة لضغوط خارجية لا يشكل عذراً كافياً لتبرير مثل ذلك التدخل. وإخفاء الحقيقة لا يعني اختفاءها، خصوصاً أنّ وسائل التواصل الالكتروني وحرية الصحافة والتعبير في العالم الخارجي تجعل من أيّ محاولة لإخفاء الحقيقة أمراً فاشلاً وأقرب ما تكون إلى الاستخفاف بعقول الناس.
الشعب الجائع المثقل بهموم المعيشة هو في الغالب شعب غاضب وساخط. واذا كان الأردنيون يملكون من البصيرة ما يمنعهم من التعبير عن ذلك بأساليب عنيفة أو دموية خوفاً على استقرار بلدهم، فإنّ ذلك لا يعني موافقتهم على ما يجري من فساد وظلم وقهر وعبث بمقدّرات البلد الاقتصادية لمصالح فئة صغيرة متنفذة من الفاسدين. إنّ تمويل الفساد الكبير من خلال رفع المديونية الوطنية إلى أرقام خيالية أمر يرفضه جميع الأردنيين، كما أنّ امتحان صبر الشعوب هي مقامرة يجب أن يبتعد عنها كلّ حاكم ذكي لأنّ مقاليد الأمور وعوامل الاستقرار إذا ما فلتت، قد يكون من الصعب إعادتها إلى ما كانت عليه، وبنفس المقدار من الصعب التنبّؤ بنتائجها.
الأردنيون لا يريدون ولا يقبلون بالفساد المالي والعبثية السياسية والتورّط العسكري والتشدّد الأمني، ولكنهم لا يريدون في الوقت نفسه فلَتان الأمور وانهيار الأمن. معادلة دقيقة جداً لا يفصلها إلا خيط رفيع. ومن هنا فإنّ المسؤولية تقع على أكتاف النظام في منع اختلاط الأمور. وإذا كانت النية لمكافحة الفساد والالتزام بأحكام القانون والدستور غير متوفرة لدى الحكم بالشكل الحاسم المطلوب، فإنّ على النظام أن يكون ذكياً وقادراً على الحفاظ على «شعرة معاوية» من الانقطاع من خلال السيطرة على مسار الفساد والحدّ من غلوائه وشَططِه، هذا إذا لم تتوفر النية لوقفه تماماً.
هذا المدى هو أقصى ما يستطيع الأردنيون تقديمه من تنازلات. وسكوت الأردنيين مهما كانت أسبابه ودوافعه لا يعني موافقتهم على أن يجوع الشعب حتى تصَاب القلة بالتخمة.
الانقضاض على الحريات والتشدّد في تطبيق الإجراءات الأمنية ولوي ذراع القانون كلّ هذه الاجراءات لا تشكل بديلاً عن الولوج في المسار الصحيح. والقدرة على استعمال سطوة السلطة وأدواتها لتطويع الشعب وفرض نهج الانصياع عليه لا يشكل بديلاً حقيقياً أمام المواطنين القلقين أو الغاضبين، لأنّ هذا المسار من شأنه أن يدفع مزيداً من أؤلئك المواطنين إما إلى خيار اللجوء إلى الدين والدروشة سعياً وراء الحصول على الراحة النفسية التي يوفرها الدين، أو إلى الخيار الدموي من خلال الانضمام لمنظمات تؤمن بنهج العنف الدموي كوسيلة للتعبير والتغيير.
إنّ مسؤولية الحكم في تجنّب ذلك وفي تجنيب المواطن هذه الخيارات من خلال تعزيز قنوات التواصل بين الحكم والمواطنين وتعزيز سيادة القانون وحقوق المواطنة تبقى هي الأساس والأهمّ، وليس الاعتماد على بطش الأجهزة الأمنية لأنّ ذلك من شأنه أن يدفع المواطنين نحو خيار اللاخيار. الشعب هو الذي يطالب وهو الذي يفرض وليس الحكم، فالحكم الصالح هو الذي يمثل إرادة الشعب لأنّ في ذلك نجاة الجميع واستقرار معادلة الحكم وبالتالي استقرار الوطن.
يتساءل الأردنيون، وهم كثيراً ما يتساءلون هذه الأيام، عن مجرى الأمور ونهاياتها، وفيما إذا كان هنالك ما يبعث على التفاؤل في ظلّ أجواء التشاؤم والعنف والغلاء السائدة حالياً في المنطقة. والأردنيون بذلك لا يشكلون استثناءً عن غيرهم إلا ربما في قدرتهم على الصبر والتحمّل، وعقلانيتهم في إعطاء الأولوية لمسار الحوار والتفاهم السلمي، وإنْ كان الأمر لا يخلو من مؤشرات واضحة على ازدياد التململ والغضب ورفض العديد من السياسات والممارسات التي تدعم الفساد والانصياع لرغبات خارجية قد لا تنسجم ومصالح الأردنيين والوطن الأردني.
الخيارات المتوفر الآن سيئة وتتراوح بين منتهى العنف والدموية أو الانزواء السلبي والاختباء خلف الدين. وتقع مسؤولية إيجاد البديل لهذا وذاك على النظام الذي يجب أن يملك من الرؤية والشجاعة ما يدفعه لأن يكون شفافاً في تعامله مع الشعب وواضحاً في نواياه واجراءاته مما يفتح قنوات الاتصال والتواصل بينه وبين المواطنين الأمر الذي سيوفر الراحة النفسية للشعب من خلال تعزيز قدرته على استشراف نوايا الحكم تجاه سياسات وخيارات الأردن وما يكتنفه من مشاكل وتحديات.
مفكر ومحلل سياسي
lkamhawi cessco.com.jo