آداب دفع الجزية

د. رائد المصري

معركة التحرير الوطنية التي تخوضها الدولة العربية السورية، تنتقل من تعقيدٍ إلى آخر، في إعادة وتكرار تاريخيٍّ لمشاريع الاستعمار التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية ورأس حربتها الكيان الصهيوني وبعض الدول العربية والخليجية التي امتهنت الدور الوظيفي، خصوصاً من قبل نواطير النفط وحكَّام المحميات الغربية الرأسمالية المقيمين على هذه الأرض العربية.

لا بدَّ وأن تكون قد تكشَّفت الصورة للعقل العربي الجمعي في استخدام الأميركي لأدوات الإرهاب والتكفير في تدمير دول المشرق العربي ومغربه كذلك، وضرب نسيجها الوطني والاجتماعي وتمزيق وحدتها في الخطاب الإيديولوجي الإسلامي الحاد والعنفي، وتوجيهها الوجهة التي يريدها المستعمر الغربي. فنلاحظ مثلاً الإحاطة لدول التحالف بقيادة واشنطن وتماهيها مع الحركة الميدانية لتنظيم داعش الإرهابي وشقيقته القاعدة أو النصرة في أجزاء من الجغرافيا السورية. فعند كلِّ تقدم وانتصار للجيش السوري وحلفائه يتقدَّم التحالف ويرسُم خطوطاً بالنار تسهيلاً لهذه لأمر الفصائل وحركتها، منها ما حصل في دير الزور وقصف جبل الثردة المرابطة عليه وحدات للجيش السوري، حيث رافقه انتشار وتوسيع دائرة سيطرة داعش، الى قصف الشعيرات بالتوماهوك وإراحة هذا التنظيم، وصولاً لقصف منطقة التنف ومنع تقدّم الجيش السوري للإمساك بالحدود، وهو بالطبع حقٌّ حصريٌّ وسياديٌّ للدولة العربية السورية في السيطرة والتحرّك أينما تشاء وساعة وكيفما تشاء.

القاعدة ذاتها حاول إرساءها الأميركي في العراق عقب اجتياح الموصل من قبل داعش مع الدولة العراقية لتأخير حسم المعركة بوجه الإرهاب منذ العام 2014 الى اليوم، لكن إرادة الجيش العراقي والحشد الشعبي وإصرارها على استكمال التحرير، حدَّ كثيراً من تأثير المستعمر الأميركي وأدواته على تنفيذ كامل مشروعه، حيث تعثر غير مرة.

ما كان يعمل عليه المستعمر الأميركي وأدواته في أزمة سورية سابقاً في السِّر، بات اليوم علناً ومفضوحاً ومكشوفاً بقيادة ترامب، فقيام الولايات المتحدة الأميركية بقصف قوة عسكرية سورية تتحرك في محاولة لطرد داعش أو غيرها من القوى التي تحاول فصل العراق عن سورية عبر البادية السورية، والوصول بعدها إلى نقطة التقاء مع الجيش العراقي على الحدود السورية العراقية. هذا القصف الأميركي وتحت أي ذريعة كان يندرج ضمن إيصال رسالة مسبقة ودفعة على الحساب لمجموعة الدول في قمَّة الرياض بقيادة الرئيس الأميركي ترامب مفادها بأن الولايات المتحدة تعمل بجدية على فصل العراق عن سورية من خلال الحدود، والعمل على إيجاد كيان مشوَّه بهويات مختلطة ومختلفة مذهبياً وقومياً وإثنياً وعرقياً، وكلُّه طبعاً يهدف الى قطع طرق إمداد حزب الله المقاوم بالسلاح من إيران عبر العراق وإلى سورية.

حزب الله الذي يكنّ له العداء الشديد والكراهية العنصرية كلُّ حلفاء أميركا من العرب والمسلمين، والذي طبعاً تخشاه إسرائيل ، فتنعقد القمة في الرياض للشروع في بناء حلف لأجل هذه الغاية، وتقطيع أذرع إيران وتقليم أظافرها في المنطقة، كما يزعمون، لأنَّها باتت تشكِّل عنواناً للكرامة وللانتصارات الاستراتيجية بوجه القوى المستعمرة وعلى رأسها الكيان الصهيوني.

استكمالاً لم أفهم بالطبع بعد هذا التحشيد العربي والإسلامي في الرياض بوجه إيران وضروراته سوى ببعض المواقف الأميركية العالية السقف في الأزمة السورية، وإجراءات الضربات العسكرية المحدودة تليها الاعتذارات، أو بالتصريحات العالية النبرة تجاه إيران عبر تسعير الاستقطابات المذهبية التي تؤجِّجها السعودية بين الحين والآخر، لتعود أميركا وتقبل بمندرجات الاتفاق النووي، أو لوضع بعض الشخصيات اللبنانية والشخصيات المقاومة على لوائح الإرهاب واللوائح المالية السوداء للتضييق عليهم وعلى حركتهم. وهي طبعاً ليس لها أي قيمة على الإطلاق. خطابات وتسعير في المواقف بوجه إيران وحلفائها ومعهم روسيا لدغدغة المشاعر الخليجية والسعودية بأنَّ حليفهم التاريخي معهم ولن يتخلَّى عنهم، فيما هم يتركون خزائنهم تسيل بأدب وسخاء من احتياطياتها وسنداتها باتجاه البنوك الأميركية لتسوية أوضاعهم الاقتصادية والمالية، التي خرَّبها نظامهم المعولم المتوحّش وجوَّع ناسها وأمْعن كثيراً في زيادة البطالة من أبناء الشعب الأميركي وهجَّر المصانع الى الخارج. ليعطوا الأميركي الأموال ويقولوا له تفضّل هذه أموالنا احكمنا بها من فضلك… وترك ملايين المسلمين بلا غذاء يفتك بهم الطاعون والملاريا… إنها مأساة الشعوب المنتجة لداعش وقبلها للقاعدة وللسلفيات الجهادية…

يجب أن نلحظ في سبيل تقديم أوراق الاعتماد المسبقة للأميركي قبيل حجيج ترامب الى الأماكن المقدسة، ما ورد من كلام خطير وغير مسبوق لوزير الداخلية اللبنانية نهاد المشنوق في احتفال في بلدة ببنين العكارية المنسية والمزالة عن لوائح التنمية والتوظيف، إلاَّ التوظيف المذهبي طبعاً، والغارقة في فقر مدقع وبطالة مخيفة كحال أكثر المناطق المنسية والغارقة فقراً في بلادي. فكان اللافت هو هذه النبرة العالية في سقفها تجاه المقاومة ودورها، شريكته في الوطن والآتية برئيس لحكومته من جنسه السياسي، أن يعمد الى خطاب مذهبي وتوتير في وقت يمر به البلد بأخطر مرحلة فراغ في تاريخه، فلا يمكن إلاَّ أن ندخله في خانة الإعادة للاستقطاب المذهبي وللاصطفافات السياسية الحادة. وهو على رأس أكبر مؤسسة تجمع أجهزة الأمن وتحمي استقرار البلد، في محاولة للاستفادة من الدور الأميركي الجديد في المنطقة وانطلاقته المتجدِّدة للاستقواء به، من دون أن يتناسى هؤلاء المراهنون على سلالات الإرهاب إن كان أميركياً أو إسلامياً، بأنَّ المستعمر يستخدم أدواته حتى آخر نفس وآخر عزم ثم لا يلبث أن يتركهم على قارعة الطريق أو في أفضل الأحوال يدخلون مزابل التاريخ… اسألوا بوش الإبن ومحافظيه الجدد وجزمة التكساس التي كان ينتعلها…

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى