فؤاد سليمان تموز
فؤاد سليمان تموز
تموز
… «أرخي أهدابَكِ الطويلة هكذا…
أرخيها يا عشتروتُ، فما في حقول لبنان،
سنبلةٌ حلوة كهذه الأهداب!
خلّيها مطبَقةً، مطبقةً…
فما أحبّها إلى قلب «تموز» هكذا..
… يا لجسدكِ الآلهي تغرق فيه ألوانُ لبنان كلّها.
طريٌ كالربيع، لماعٌ كالصيف..
شهيٌ كأكواز الصّنوبر في بلادنا.
أبيضُ أبيضُ مثل الحمامات في مغارتنا.
أحمرُ أحمرُ كأثمار العُنّاب في جبلنا.
… يا لهذا الجسد… كأنّه من حرير فينيقيا الأرجواني.
أريكةٌ للملوك وسريرٌ للآلهة، ووِسادة لرأس «جوبيتر».
طيّبٌ طيّب، هذا الجسد… كأنه تفاحة من الجنة!
جميل جميل، كأنّه من ألوان الشروق…
زنابق الحقل تشتاقُه في غفوة وارتخاء.
والورود البرية الحمراء تلتفّ عليه عارياً عارياً…
استسلمي يا عشتروتُ… ولن تستسلمي لأجمل وأنقى وأقوى من هاتين الذراعين.
أرخي أهدابَكِ الطويلة يا عتشروت فضوءُ القمر يطلع على الجبل… وفي جسدي وحش برّي.
عشتروت
أنا وسادةٌ لرأسك يا «تموز» وسرير لجسدك…
يا أطيبَ ما في لبنان من صيّادين… ويا أقوى وحش إلهي في هذه الجبال.
خذني كما أنا… وليجرِ دمُك في دمي…
فغِزلان لبنان أرانبُ في عيوني بعدك!!
وسّدْني زندَك أيها الصيادُ الذي أحبه…
زندك سنديانة من لبنان… جبهتك من بلّور البحيرة… خصَلُ شعرك من أشجار الصفصاف المتدلية على البحيرة…
أنا أيها الصياد… عرفتُ الملوك والصعاليك والوحوش البرية…
وأحببتُ الفهود والنمورة والذئاب… فما عرفتُ أشهى منك وأطيب…
من لبنانَ أنت…
من جبال الطيب والبَخور أيها الصياد!
ما أشهى رائحةَ ثيابك فيها رائحةُ الدماء والعرَق.
ورائحة الأحراش العميقة…
ويطلع الضوء ورجل إله، صريع على صدر امرأة…
صباح الخير 1
… ليته كان لي أن أملأ صباحات الناس بالخير.
فلا يطلع عليهم صوتي، من هنا، إلا في مواسم الورود والأطياب.
يا ليته كان لي، في كل صباح، أن أمُرّ في أحياء الناس، فأزيل من قلوبهم بعضاً من همومها وغمومها.
أو أن أمسح في الناس جراحاً ودموعاً…
إذن لكان صباحُ الناس خيراً عن حق.
وكان الحقّ لي، في أن أهتف مع ديوك الحي: صباح الخير… صباح الخير.
… وإنّه من أجل الخير وحدَه، ولا شيء غير الخير يرتفع هذا الصوت من هذه الزاوية، في هذا «النهار» وفي كل «النهارات».
وإنه من أجل الخير، ولا شيء غيره، يدور «تموز» في الشوارع وفي الزوايا وفي التّكايا، في الأكواخ والقصور.
يمسح في الناس جراحاً وينكأ في الناس جراحاً.
يجفّف دمعة من عين، ويلطم عيناً أخرى بمخرز.
يربّت على خد حيي، ويصفع خدّاً وقحاً.
من أجل الخير ولا شيء غير الخير،
يحمل «تموز» قوسه وسهمه، ويمشي في غابات هذا البلد،
يصارع الوحوش البرية المنتشرة في جبالنا وسهولنا ومدننا وقرانا.
تدوس أثمار العُنّاب الحمراء الشهيّة بأرجلها.
ولن ترحم سهام تموزَ وحشاً.
وإمّا أن تصرعه الوحوش البرية وتكسرَ سهامه، وتمزّق قلبه، ولا يبقى غيرُها في هذا البلد.
وأما أن يصرعها، فلا يبقى عندنا غيرُ الخير…
صباح الخير 2
… في طلّة هذا اليوم، مع أول الضوء،
تنفتح الشفاه عن كلمة حلوة عميقة،
ما أعرف في الكلمات أطيبَ منها لوناً وأنقى حروفاً… كأنها من الورود والياسمين.
وكأن فيها من أطياب الفردوس.
صباح الخير… صباح الخير…
كأنها عصفورةٌ، من الجنة، ملونة تُفلت
فالنوافذ في الدّور مُشرقة،
والزوايا الكئيبة فيها دفءٌ وفيها ألوان من فرح
والإناء المهجور فيه وردة مخملية حمراء…
وحصير الدار ترقص فيه غنجات الصبايا
صباح الخير أيها الناس، ومن أيّ لون ومن أي دنيا
ساعين للخير مع الصباخ الخيّر،
أم ساعين للجريمة في يوم الخير.
ما همّني مَن أنتم أيها الناس…
فما عندي أطيبُ وأنقى من هذه الهدية في هذا الصباح
صباح الخير… ولن تموت في أرواحكم الشياطينُ المقلَقة، إلاّ متى كان صباحكم كلّه خيراً.
صباح الخير… أيها المتاجرون بأكفان الموتى ومسامير التوابيت!!
صباح الخير، أيها المُصبحون اليوم في الخمارات والمواخير.
صباح الخير… أيها المشرّدون، تحملون عار المجتمع على أكتافكم
صباح الخير… أيّتها اللعينات من النساء، تدفَعنَ من أعراضِكنّ جزيةً من الدم.
صباح الخير أيها المجرمون. خلف الجدران الصماء العمياء.
أيها المَرضى، تكوي الأوجاع أجسادكم.
يا أخوتي، يا رفاقي، أيها الملاعين في كل زاوية من الزوايا
صباح الخير.
الكلمة
هذه الزاوية أُريدها، أولاً وأخيراً، زاوية للخير والحق والجمال..
ولن أسخّر قلمي لغير هذه القِيم التي أريدها لنفسي أولاً، ولبلادي أخيراً…
والأقلام المسخّرة أقلام بغيّة في آخر نقطة حبر فيها…
والأقلام الكاذبة أقلام لا تقيم في الأرض حقاً، ولا تمحق في الأرض باطلاً…
و»الكلمة» عندنا، نحن الذين، ما زلنا نؤمن في هذا البلد، بأعجوبة الكلمة،…
«الكلمة» نور، ولن تظلم الكلمات في أقلامنا…
نحن نؤمن بأنّ الكلمة وحدَها، يُمكنها أن تُقيم حقاً ولا شيء غير الكلمة يمكنه ذلك…
نحن الذين، ما زلنا، في هذا البلد، نؤمن «بالكلمة» ـ ولن نؤمن بغيرها ـ لن نعترف لسلطان في الأرض إلا لها.
ولن نكتب الكلمات والحروفَ إلا ضياء…
إن الذين احتقروا الكلمة ماتوا وصاروا عظاماً
ولكن الحروف باقية، يشيع ضياؤها من جيل إلى جيل…
ولن نكتب في هذه الزاوية غير الحق والخير…
ما أعظم الإنسان
… ما أعظم الإنسان!
فيه وحده تتجلّى القوى الرهيبة فكأنه قِمة أعلى من القِمم وعمق أبعد من الأعماق.
وكأنه انطلاقٌ ما بعده انطلاق!!
آمنت به… يبتدع الحقائق والخرافات ويسنّها في الأرض مذاهب وشرائع،
ثم ينصّبها آلهة فوق قنّة كل جبل.
وعلى كل مرمى من السماء.
هذا الإنسان الذي ابتدع أعظم ما ابتدعه العقل، وأسمى ما حلمت روح، في إشراقها وانفلاتها فكان الله… الله العظيم.
وكان الله خيراً ومحبة وجمالاً…
ومنذ ذلك الحين والإنسان يحاول تجسيد الخير والمحبة والجمال، التي هي وحدها الله، بالأنغام والألوان والأزاميل… والحروف…
فكانت الموسيقى، التي عبرت عن عُقَدِ النفس المتشابكة، بما فيها من أغوار وأبعاد…
وكان التصوير والنحت والحفر، الفنّ العظيم الإلهي الذي جسد الله، في أعظم وأروع ما أنتجه عقل وأبدعته روح..
والحروف هذه، هذه الحروف الصغيرة المنمقة.
ليست حبراً عندنا وإنما هي قطع من القلب، سلخناها نحن، من اللحم والدم.
فكانت لنا الحروف.
ألواناً.
وكانت أنغاماً
وهكذا نريدها، لوناً من القلب
ونغماً من الدم
ونريدها صلاة… إلى الله..
الله أكبر
… عيني عليه، في المئذنة، فوق نافذتي وأذني على نغمتة،
فيها حنان يُدفئُ القلب فكأنّ العشية الحلوة، كلّها، إيمان وصلاة: ألله أكبر…
… وأنا ما أرى في نفسي أعمق من هذا الله، تنادي به العشايا في كل قبّة من القباب في بلادي…
فالأجراس، على التلال الخضراء،
في رعشة المغيب، مع أول العتمة،
حنينٌ ما تعرف الدروب اللبنانية، أعمق منه وأنقى
… وهذه الأعمدة البيضاء، تتلاقى فيها،
في مثل هذه الهنيهات، قلوب الناس،
على مثل رفّة الجناح السماوي… ما أرى في الظنّ أبعد منها مدى، وأرفع رأساً.
… وهذا الإله الكبير، الذي زرعناه نحن،
في كل سهل، وفي كل جبل…
وأعطيناه للناس، في المقلب الثاني من الأرض خيراً وإيماناً.
كأنّي به، يعيش لنا وحدنا في الأرض
في هذه العشيّات
الله أكبر… الله أكبر…
متى يصبح الله كبيراً أيها النّاس، فلا تنحرون على اسمه ضمائركم وذممكم وأعراضكم.
متى يصبح الله كبيراً أيها الناس، وتصغر أحقادكم وتنكمش على نفسها،
فلا ترفع رأسها عن مثل رأس الحية؟
… وأنت يا صاحب هذا الصوت النقي في المئذنة فوق نافذتي…
مُدّ صوتك ما تشاء…
فما يسمعُك أحد من الناس
في هذه العشيّة… غير الله…
رصاص
… تُرى، كم غنّته البطولات، على مفارق الجباه العنيدة!!
تُرى، أفي الأناشيد أروع من نشيد يغنّيه الدّم والفولاذ؟
… وملاحم الأبطال! مَن تُرى غنّاها خالدة رائعة غير الرصاص؟
وجباه الأمم الممعوسة من ترى نفّض عنها تراب الذلّ، غير الرصاص؟
ورقاب الملاعين من العبيد، مَن كسر سلاسلها غير الرصاص؟
من أقام الشعوب وأقعدها غيره؟
وأيّة عيون! عيون طفل تلمع فيها بروق الرصاص؟
وأيّة جباه! جباه أبطال يزغرد عليها الرصاص؟؟
رصاص مقدّس، أقام في الأرض حقاً،
وسمَد تراب الحريّات…
يا رصاص!! يا أغنيّة الأبطال!
يا زغردات الدّم في أعراس الحريات!
يا رافعَ الجباه من ذلّتها وانكسارها!
يا رصاص… ما أحقرك في لبنان!!
ما أرخصك يا رصاص لبنان!
ما أرخص أغانيك…
كأنها ليست أغاني الرصاص.
خالق الثورات في العالم، هادم العروش، معلن حقوق الإنسان، يصبح في بلادي حقيراً، عبداً في الأيدي المجرمة.
في بلاد تُهان بطولة الرصاص، وتعوي أغانيه عواء.
أفي غير بلادي من أمم الأرض تُهدَر كرامات الرصاص؟
ما أرخصك يا رصاص بلادي!
وكأنّك سلاح الجبناء والمجرمين…
يا ذّلك يا رصاص!!
من كتاب «تموزيات»