سهيل عرفة… رسم مشواره وغادرنا متعباً
جهاد أيوب
رحيل سهير عرفة… ذاك الملحن الفارس سقط عن جواد الفنّ ممسكاً براية فنّ بلاده، وباكياً على بلاده.
ذاك الذي صنع بجوارحه الأغنية السورية، غامر معها إلى الجنون، سافر برفقتها مع المجهول حتى غدت أرجوانة سورية، وأيقونة المناسبات الوطنية.
كان سفيراً مكلّفاً من دون أن يكلّف، وأصرّ أن يطعّم كلّ الأصوات العربية بالكلمة واللحن السوريين من أجل الهوية، والانتشار.
وهذا الكبير أصرّ أن يرحل في زمن هجرة الطيور عن أوطانها الموجوعة، لم يشارك في مأتم الكبار أمثاله لكونه كان ينتظر مشاركتهم في بناء الجسور داخل البلاد.
كبر سهيل عرفة بسرعة البرق، وناضل من أجل الفنّ السوري. وتشبّث بكلّ مفردات الأصالة العربية حتى قام ببناء الجملة السورية الغنائية الصحيحة.
وشاخ سهيل عرفة كلما سمع هدير القتل والمتفجرات والاغتيالات الكافرة، وآمن بأن عودة الوطن تكون في راية الفنّ، والشمس ستعاود قبسها من الموسيقى والغناء المسؤول.
عرفته مهذباً، طيباً، باحثاً عمّا هو أفضل، واستمعت إليه يتحدّث بشغف عمّا قدّمه، وما ينتظره، ومن سيحمل رايته. ومع كلّ كلمة كنت أشعر بطفولته المتدفقة مع ضحكة جميلة.
أحببته حينما يفتخر بتلحينه لصباح ووديع الصافي من أجل أن تنتشر الأغنية السورية عبر حناجر كبيرة تشكل جواز السفر الحقيقي للانتشار الأوسع، وتعطي بصمة وهوية.
كان صوت وديع الصافي الأقرب إليه، وكان صوت صباح الأحبّ إليه، وفي كل مناسبة يعيد كيفية اللقاء بهما، خصوصاً لقاؤه بصباح.
يقول، إنه وفي بداياته، ولم يكن معروفاً ومنتشراً، زار المطربة صباح، وهي في عزّها ومجدها وشهرتها الواسعة، استقبلته بأجمل الترحاب والتواضع في بيتها في منطقة الحازمية، وبحضور محمد عبد الوهاب، وعاصي ومنصور الرحباني، وفيروز، ووردة، وبليغ حمدي، ونجيب حنكش، وسعيد فريحة… يومذاك طلبت صباح منه أن يخرجا، ويجلسا على الشرفة المطلّة على بيروت، فطلب منها الانسحاب لتتفرغ لضيوفها.
قالت له رافضة رحيله: هؤلاء أصدقاء، وكلّ يوم هم في بيتي، أما أنت فتحمل همّ أغنية بلادك، وتريد لي أفضل الأغاني، وأن ننجح معاً، لذلك أسمعني.
وكانت مجموعة أعمال كثيرة منها «حامل قلبي سكارسة من الشام لبيروت»، وأبرزها «عَ البساطة» التي شغلت العام العربي بين مؤيد ورافض، وانتشرت كالصاروخ، ونقلت سهيل عرفة من ضفّة إلى ضفّة.
كان سهيل عرفة يفاخر بكلّ ما قدّمه في الفن، ويؤمن بأن عمله في الفنّ السوري كان نعمة لا نقمة. هو بذلك ليس مغروراً، بل هو الطفل الذي يحبّ أن يتحدّث عن إنجازاته.
لا يحبّ أن يصمت كلّما بادرته بسؤال عن دوره وفنّه ورأيه، ولا يحبّ أن يتطاول على جهود غيره، ولا ينتقد ويجرّح ويقلّل من شأن الزملاء، ولا يسمح لأيّ شخص كان أن يتطاول على وطنه ورموز بلاده، هو كل هذا، وهو كل الجروح والتعب والصبر، ولا يحبّ أن يشتكي ويثرثر ويعرض حاجاته ومتطلباته ومصائبه.
سهيل عرفة يفاخر بابنته الفنانة أمل عرفة، يعشق صوتها وموهبتها، ومن خوفه عليها لم يفرض عليها أعماله، ولكنه كان أميناً على أن يذكّرها بالخير، ويذكّرنا بموهبتها المشرقة كأب ومتابع ومُشاهد وفنان.
سهيل عرفة ترحل في زحمة تراكم أوجاع الوطن، وأنت قدّمت له أجمل الأعمال الوطنية.
سهيل عرفة تسقط عن جوادك لحظة سقوط أوراق الشجر في حديقة الوطن، وأنت كنت ترويها بألحانك الفضفاضة بالنغم العميق، والسحر الشرقي الرشيق.
سهيل عرفة تغيب عن زمن سرق أجمل لحظاتك في وطن نُهبت أوقاته الأجمل، وطن كان يسعى إلى تكريمك، والانحناء أمام جهودك، والاعتراف بقدراتك وتميّزك وتفوّقك ومدرستك.
سهيل عرفة النغم التطريبي الشعبي المحاك بزخرفات المجتمع المشرقي من دون خجل، بل بثقة الفاهم عمَلَه، والمدرك تصرّفَه، والمشبع بصوابية جمله اللحنية.
سهيل عرفة سنفتقدك كلّما أزهر ياسمين دمشق، وسنشتاق إليك كلّما غرّدت أصوات كبارنا، وسنترحم عليك كلّما رفعوا راية الوطن، وسنبحث عنك كلّما نشتاق إلى أنغام سوريّة تشبهنا، ونجد صوَرَنا فيها.
سهيل عرفة سنزور سورية من دون أن نستمع إلى صوتك عبر الهاتف مغرّداً معاتباً محبّاً، ومشتاقاً إلى بيروت… كم سنفتقد الفنّان الباحث والشاب… الفنان الذي رسم مشواره بفرح، وكم كنت متعباً من همّ الوطن، وحزيناً على أوجاع الوطن.