حياة قابلة للتدوير بفاعلية التشكيل التركيبيّ… وغير متخفّفة!
النمسا ـ طلال مرتضى
بدءاً من ماهية السؤال: هل إعادة تدوير المدوّر قابلة لتشكيل حياة جديدة؟
ثمة فواتح ظاهرة لا بدّ من التوقف عند حدّ تخومها، انطلاقاً من النظر في دوال الدالّ والمدلول الأشياء، ليتدخّل الحسّ الفنّي ليحوّل خامات من المخلّفات التي تشكّل خطراً على البيئة إلى منتجٍ راقٍ وصديق للبيئة، من خلال تدويرها وتجديد عمرها الافتراضي، ثمّ تقديمها بِأشكال وتحف فنّية تُقام لها المعارض وتُكرَّم بالجوائز.
فما أودّ الإشارة إليه، هو ما تراكم على المساحة اللونية القرائية، باشتغال مكثّف نحى صوب الجدّية الكلّية، ليشي للعين الراصدة بأنه مجترعه، استطاع أن يجعل ممّا هو مدوّر سالفاً، حالة قابلة لتمثيلات الحياة بكل معطياتها واجتراعاتها وذلك من خلال التماهي مع روح ما تم إسقاط تلك العلائق عليه، لتقترب من تصاوير حيّة مفارقة تماماً مع أناها من ناحية، ومع محيطها الكوني من ناحية تالية، والتي في كثير من الأحيان، حالة نتلمسها في تراكمات الحياة اليومية.
عطفاً على ما سلف، ومن خلال الولوج إلى بهو الإطار الضيّق المغلق على التخوم المجانبة إلا من تلك الضوضاء التي يضجّ بها الداخل. وكقراءة استنتاجية استشفافية تقترب كلّياً من مكوّن بنية هذا التشكيل التركيبي البانورامي، أشي بكلّ ممكناتي القرائية، بأن اليد التي افتعلت هذا، دأبت بكدّ وجدّية ملموسَين على دفق عصف تعيشه هي أولاً، قبل أن تطلقه إلى الفضاء الخارجي، ليتكامل مع فعاليات الحياة كلّها معاً.
هذا العصف يمثلنا جميعاً من دون استثناء، وقد استطاع التشكيليّ بحدس العارف، عكس المشهدية في حواسّ متلقّيه، لدرجة أن الأخير هجس بصوت عال: «ما أراه هنا… ما هو إلّا رجع روحي ونشيدي الداخلي»!
تلك اللمسات الخارقة لم تكن عبيثة بالمطلق، بل كانت أقرب إلى حالة راهنة، جسّدها الفنان برشاقة المتمكّن، ليس من خلال التخطيط أو رسم مخطّط بيانيّ أوّلي للعمل، إنما نجده في لحظة ما، أنه لم يستطع الوقوف بشكل حياديّ. وجوده الحاضر داخل الإطار أعطى حالة صدق عمياء للقارئ الرائي، الذي انساق في التفاصيل من دون أن يسأل في لحظة ما إلى أين هو ذاهب. وهي براءة المتلقّي وفطريته، عين يتعالق مع عمل ما، وقت سلّم قيادة لفنّان تركيبي يعرف ماذا يريد!
بعيداً عن دلالة الإطار التي افتعلها الفنان والتي أرادها حيّزاً خاصاً يمثل فضاء يخصّه هو إنّما بمرايا أرواحنا، لذلك أسر حراك اللوحة داخل أربع قوائم كي لا تتشتّت عين القارئ وذهنيته، ليقاربها من يوميه، إسقاطاً.. كدائرة الضوء المشعة على خشبة المسرح بصرف النظر عمّا يدور خارجها.
كهالة إبداعية أجد أن التشكيل التركيبيّ أكثر دلالالة ووضوح من التشكيل اللوني، في ما يخص انفعالات البشر وأحاسيسهم، وذلك لما يحمله هذا الفنّ من حالة تعبيرية جليّة ملموسة أكثر ممّا هي تخاطر مرئي. فهنا نجد داخل إطار اللوحة قصاصات من صحف يومية وضعت بعبثية تامة وفي أماكن مختلفة وعشوائية، وهو ما حدا بي للنهج نحو السؤال، أليست تلك القصاصات ذاكرة سالفة، أليست علائق وأنفاس وتصاوير لبشر حقيقيين عبروا من هنا بسلطة الزمن؟
لم أكن للحظة ما أن أتصوّر أن عبوة العصير «التنك» تمثّل أيّ مدلول أو أنها قد تشي لي بمعنى! لعلّ كثيرين منّا وبشكل يومي، يرمي عدداً من تلك العبوات بعدما يشرب ما في داخلها. وكم من المرات عندما ننتهي من شرب محتواها، نقوم بمعسها لدرجة الخنق التام، تواً وأنا أقف أما اللوحة أعاين تلك العبوة، نسيت أن أصابعي صارت في قاع كفّي وكأني بي أخنقها كي أخرج غبن ما من حواسي الأخيرة.
قصداً عمد الفنان على زرع كثير من قطع السيراميك الملونة والمتفاوتة والمتداخلة في أماكن مختلفة عبر تشكيلات لا تشي الا بأمرين، الاول يدل على أن تلك الأرض تستوعب كلّ الاطياف بكلّ ألوانها وعرقياتها ومللها وقومياتها من دون انحياز إلى أحد ضدّ أحد، لأن التشكيل مكتمل بالكلّ وليس بإقصاء طرف ما على حساب آخر.
والتالي وهو فنّي ينحو صوب الهندسة التي استطاعت تدوير ما هو مدوّر سابقاً، للوقوف على حياة جديدة بفاعلية الشكيل.
فضاء اللوحة المشنوقة في بهو جامعتي أكبر بكثير ممّا تلمسته وأسقطته توّاً عبر حواسي التي انساقت دونما توجيه لتنزاح وتقارن بين ما هو داخل هذا الإطار وما بين ما يعبرني من تصاوير حيّة.
تلك اللوحة دليل وجوديّ لحياة داخل حياة، لا يمكن تجاوزها، تجاهلها، مجافاتها، لأنها ببساطة نحن، هي سمتنا التي نتنفس جهاتها دونما تحضير.
حضورها الكامل أي اللوحة ظلّ منقوصاً، لم يكتمل بما فيه الكفاية، لأن سؤال الذات ينطلق دائماً، كيف نستدلّ دروبنا عبر مجهول ونمشي وراءه؟
نعم، كلّ ما قلته عن الحياة داخل اللوحة هو حضور أكيد، لكنه بقي في عيني منقوصاً، بل عالق مثل حشرجة طي حنجرة ملت الصراخ، بماهية السؤال، لماذا أغفل الشخص الذي ركب هذه الحياة، اسمه؟
لماذا أخذني معه حدّ المجهول من دون أن يشي لي بهويته؟