التونسيّ محمد الناصر شيخاوي في القصيدة الغنائية المحمولة على روح الانكسار

أحمد الشيخاوي

للكلمات أنوثتها المستفزّة في تعلّقها بالشفاه الرطبة المنذورة لترجمة المعاناة ومكابدات الذات على نحوٍ طاعن بفلسفة الصدق والتصالح مع المكوّن الوجودي وسائر المعطيات الأخرى، سواء في انفصالها أو اتصالها بما هو جوّانياً ومضمراً، طافحة به كينونة لا تبرح حدود لعبة مكاشفة حقيقية تعتمد أسلوبية ذروة في الأناقة والتحضّر، لإثبات الجدارة في مجابهة ومعارضة ثقل العالم المترامي بشتّى صنوف تحدّياته وتجاوزاته لما هو جميل ونبيل وإنسانيّ فينا.

سخط ينفلت هادئاً مهادناً مصطبغاً بتضخّم أنوي يشفع له خطاب الهشاشة في تفشّيها المخملي، وتوجّهاتها وفق ما يفسح لتلوينات طوباوية ساخرة من راهن ما ينفكّ يقصفنا بمرارته وخبثه وجملة منغّصاته، التي هي بمثابة حمولة زائدة تقصم الظهر وترعى استشراء سرطانات الفتك بفسائل ما هو رقراق سلسبيل منعش للذات.

من هنا، يبرز جليّاً للمتلقي، عبر تجربة شاعرنا التونسيّ محمد الناصر شيخاوي، تلكم الهيمنة للميكانيزم المسموع في صوغ المشهد الحياتي وإعادة إنتاجه، سواء انطوى الفعل الإبداعي على وازع الفردانية أم الجمعوية. والمحصّلة أن تكون تقاطعاته، أي المتن السمعي تبعاً لاشتراطات تستسيغها الأذن، مجرد تقاطعات وتداخلات محدودة مع البصري وكلّ ما يمنح أولوية للمشهد الأجوف الفارغ من أيّ معنى.

وهكذا، نستشعر ملء جوارح التلقّي، إلى أيّ مدى يعتبر حضور الشعرية المحتفية بثيمة الزمن، طاغية حدّ تفرّع باقي التفاصيل الرسالية عنها.

كثافة الاشتغال على الحيّز الزمنيّ المختزل تحديداً في الفترة المسائية بما هي منظومة طقوس متغزّلة بالذابل وسالكة سراديب استلهام لحظة ولادات دلالية ليلية عاكفة على التدثّر بمعاني الخواء والعدمية الوحشة والانطفاء.

بدورها، ههنا سرديات العشق والتعشّق، ترتع وتتشرب روح هذا المعطى مثلما تمليه مستويات استلهام عناصر الغنائية باعتبارها الوتر الأنسب لتعبيرية تراهن على تشكيل ما يشبه طوق إبر جمالية واخزة، تدغدغ الذات والعالم مستهدفة مكامن الخلل والأوبئة، من زوايا عدّة، تروم نمطاً كتابياً أدنى إلى الشفهي، في غلاف أيديولوجي يعنى بقضايا عربية وإنسانية مصيرية تمثل الاستثناء.

وهو بعض ما سوف نخلص إليه بكل تأكيد إذا ما تملّينا الاقتباسات التالية:

«نحن خفافيش الظلام

نعيش ونحيا على الدوام

في الخفاء

فإذا ما طلع النهار

وأبلج نوره والضياء

نذوب نحن

كما الملح في الماء

ونموت

يقتلنا الحياء…».

«يا هذا وذاك الصباح

غادر لتوّك

وهم مراسينا

فحسبك أن نودّعك

بميت من القبل

وتلويح من بعيد

ببقايا من أيادينا…».

«فقاقيع تطفو على

سطح ذاتي

تفقأ ما مضى

وآتٍ

فأتوارى خجلاً

أستدرج عللاً

بدموع ساكبات

أسقط

ويسقط الرأس منّي

إلى أسفل درج

من سلّم الهروب

أرتجي شمس الغروب

أن تغيب قبل المغيب…».

«يغتصب العدوّ كلّ يوم

أرضنا

ويمعن في إذلالنا

يضاجع بنهار

بهاء ليلنا

فلا نغار

ولا نفعل شيئاً

غير البكاء والدعاء

أي أمّة نحن بحقّ السماء

والجنّ أيضاً، أضحى له

نصيباً من ذلّنا

طوعاً وكرهاً

يواقع نساءنا

فلا نغضب لذلك

أبداً…

ولا نقيم عليه حدّاً

أبداً…».

«وبالمسفوح من دمي

صحت

بين الصوت والكتم

أمجنون أنت؟

حتّى في الحلم؟

أفقت بين صحوٍ ونومٍ

على صوت أمّي

وهي توقظني

وبالوسادة بقية

من أثر الجنون

ومن دمي»!

«لكي أكون شاعراً

لا يلزم أن أنشر ديواناً

تزيّنه جوارٍ من القوافي

وغلمان عروض وميزان

أنا لست بالسلطان… سليمان

أنا روح تنبذ الكتمان

أطرح فكراً وأمدّ جسراً

كي يعبر الإنسان…».

«جميلة أنت

وكلكنّ جميلات

لقد أعددت لكنّ

بقلبي متّكأ

غير أنّ لكلّ واحدة منكنّ

ميعاد وميقات»!

«سألت صديقي:

هل تعرف طعم الخواء

قال: لا، وهل للخواء طعم؟

قلت: أجل، خذ قطرة

من بحر ما يجري

بأوطاننا

تأتيك المنايا

على عجل…».

«حدّثني عمارة

حدّثه عامر

حدّثه عمار

أنّ إعمار

حدّثته نفسه

بقتلي».

«عبورك خلّف عبيراً

أيقظ شهوة

وأحيا سريراً

فعانقت فيك

كلّ النساء

ودفء الشتاء البارد

وبوح مساء شارد

كان قد غفا

حتى صحا

أمسي في الغد

فأفقت وباليد

حفنة حلم

لم يدم

إلا يسيراً…».

قالت: إن كنت لي سماء الأمان

سأكون لك أرض الحنان

وإن كنت لي غيمة عطاء

سأكون لك شلّال سخاء

كن كما أحبّ ستجدني كما تهوى وأكثر…

قلت: حبيبي

أنت هنا ك

وأنا هُنا

أعدت ترتيب الحروف

وأسقطُّ «الكاف»

من كفوفي

فلم يبقَ إلّا «هنا»

يا للهناء

صرتِ «أنت» «أنا»

لأن لي المكان وآن لي الآن

أن أفعل بنفسي

ما أشاء

أن أفعل بكِ

ما أشاء».

هو اغتصاب للمشهد لصالح المعنى وفق ما يقتضيه الغرض العام من بلورة المنجز، حتى ليكاد يجهز بالكامل على اكتناز الصورة ويلغي ومضات اللون التي يزدان بها القول الشعري مثلما هو مألوف.

بيد أنها نقيصة تغتفر وسرعان ما تدمغ بالبديل ويستعاض عمّا يمكن أن تثمره، بكمّ الإقحامات الإيقاعية المنتصر لأسلوبية السماع، كضرب مذلّل وممهّد لمناخات التلقين واستيعاب متتاليات الترميزات المحيلة على دوالّ إماطة الأقنعة عن روح تكابر في انكسار، ومنطوق إضمار باذخ يجترح تعرية شاملة وفضح موسوعي لمنسوب حمولات وجدانية وصوفية وتنويرية تتّهم مرايا العالم المقلوبة.

هي شعرية انكسار إذن، نتشاطر كأس علقميتها جميعاً، وفي مصاب واحد وهمٍّ إنسانيّ مشترك، لكنّها تحذّر أن تعرض علينا مجرّد مومياء، وحالة متيبّسة وجافة، تتآكلها هواجس الانهزامية ووساوسها.

بل هي على النقيض من ذلك بالتمام، تأملات وشطحات مقبولة، وخروقات طوباوية مستفزّة تنتصب شامخة متشرّبة عنفوان القصيدة الغنائية في تغييها قفزاً فوق جرح اللحظة، ولحظة الجرح، والانكسار باتجاه فجر باسم ومستقبل زاهر لا يتأتّى إلا بمزيد من التضحيات والنضال والقرابين.

شاعر وناقد مغربيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى