أزمة لبنان مستمرة: لا تغيير بل مزيد من الشيء نفسه
د. عصام نعمان
تحتدم الخلافات بين أركان الشبكة الحاكمة حول قضايا وأمور كثيرة، أبرزها قانون الانتخاب لكونَه الصيغة «القانونية» التي يتمّ بموجبها توزّع المقاعد النيابية بين أركانها، وبالتالي المراكز الأساسية في السلطتين التنفيذية والقضائية، كما تقاسم المصالح والامتيازات.
لتأمين حصولهم على «حصصهم» السياسية والاقتصادية، يلجأ أركان الشبكة الحاكمة إلى رفع شعارات وطنية للتمويه، أو المطالبة باستعادة «حقوق مهضومة» لطوائفهم، أو السعي للحصول على ضمانات سياسية ودستورية لحمايتها، أو طرح تعديلات دستورية تخدم أغراضهم السياسية والخاصة.
خطورة الأزمة مصدرها انصرام مدة الدورة التشريعية العاديّة لمجلس النواب في 31 الشهر الماضي، وصعوبة انعقاده قبل انصرام ولايته في 20 الشهر الحالي ما لم يقرّر رئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة أو بناءً لطلب الأكثرية المطلقة من مجموع أعضائه، دعوتَه الى دورة استثنائية بمرسوم يحدّد افتتاحها واختتامها وبرنامجها.
رئيس الجمهورية وَعَدَ بإصدار المرسوم المطلوب قبل انتهاء شهر أيار الماضي، لكنه لم يفعل، ما أثار رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي ردّ بدعوة المجلس الى الاجتماع في الخامس من الشهر الحالي. أنصارُ الرئيس عون اعتبروا دعوة الرئيس بري باطلة عملاً بأحكام المادة 31 من الدستور التي تنص على أنّ «كل اجتماع يعقده المجلس في غير المواعيد القانونية أيّ خارج الدورات العادّية التي يحدّدها الدستور أو الاستثنائية التي يدعو إليها رئيس الجمهورية يُعدّ باطلاً حكماً ومخالفاً للقانون». غير أنّ الرئيس بري عقد مؤتمراً صحافياً قدّم خلاله مطالعة قانونية مبنيّة على اجتهادات ونصوص دستورية فرنسية تجيز ما فعله لا سيما أنّ البلاد والدولة يمرّان في ظرفٍ استثنائيّ.
لماذا تصرّف كلٌ من الرئيسين على النحو السالف الذكر؟
لا ينكر أنصار الرئيس عون أنه تأخّر في توقيع مرسوم دعوة مجلس النواب الى دورة استثنائية، وذلك للضغط على الكتل البرلمانية بغية استعجال التوافق على قانون للانتخاب قبل انتهاء ولاية مجلس النواب في العشرين من الشهر الحالي، وللحؤول دون تمديد ولاية المجلس مرةً ثالثة.
أنصار الرئيس بري لم ينكروا أيضاً سبب مبادرته إلى تعيين جلسة للمجلس في الخامس من الشهر الحالي: تخوّفهم من أن يكون الرئيس عون وحزبه التيار الوطني الحر بصدد عرقلة إقرار قانون جديد للانتخاب، كما الحؤول دون تمديد ولاية المجلس وصولاً إلى فراغٍ في السلطة التشريعية بعد العشرين من الشهر الحالي، والانفراد تالياً بحكم البلاد بالسلطة التنفيذية مباشرةً وبمنأى عن أيّ رقابة نتيجةَ الفراغ في السلطة التشريعية.
إلى ذلك، ازدادت الأزمة احتداماً بما أورده جبران باسيل، وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر، أو نُسب إليه من تصريحات حول إعادة النظر ببعض أحكام اتفاق الطائف بشأن تعديل نص المادة 22 من الدستور لتكريس طائفية مجلس النواب بدلاً من النص الدستوري القاضي بانتخابه على أساس وطني لاطائفي، وكذلك اقتراحه بوضع حدٍّ أدنى للأصوات التفضيلية التي يحصل عليها المرشح من أبناء طائفته كي يُعتبر فائزاً بالنيابة.
رغم احتدام الأزمة وتعقيداتها، فقد يتوصّل أركان الشبكة الحاكمة الى توافق بشأن صيغة وسطية لقانون انتخاب جديد ليس فيه من الجدّة سوى اعتماد صيغة النسبية وتقييدها بـ «ضوابط» من شأنها تعطيل ما كان يرتجيه المطالبون بالتغيير والإصلاح من تجديدٍ للتمثيل الشعبي وتأمين عدالته وتجاوزٍ تدريجي للطائفية السياسية.
في ضوء المساومات والمقايضات التي رافقت وترافق المناقشات والترتيبات الجارية لتظهير قانونٍ جديدٍ للانتخاب، تتضح الحقائق الثلاث الآتية:
أولاً: إنّ التيار الوطني الحر وتكتله البرلماني التغيير والإصلاح ليسا جادّين في مسألتيْ التغيير والإصلاح الحقيقي وإنهما ما زالا موغلين في محاولات ترسيخ الطائفية والمحصاصة، والعزوف تالياً عن قيادة البلاد نحو الدولة المدنية الديمقراطية المرتجاة.
ثانياً: إنّ غالبية التكتلات السياسية التي تتألّف منها الشبكة الحاكمة تشاطر التيار الوطني الحر، بدرجاتٍ متفاوتة، عدم الجدّية في مسألتيْ التغيير والإصلاح الحقيقي، وتبدي استعداداً للتوصل معه الى تسويات ومقايضات تكون، كما في العهود الماضية، على حساب الشعب وحقوقه السياسية والاقتصادية وطموح القوى الحيّة لبناء الدولة المدنية الديمقراطية.
ثالثاً: إنّ القوى الوطنية والتقدّمية عاجزة في نهجها الحالي عن الارتقاء بالعمل السياسي والنضال الشعبي إلى مستويات أعلى وأكثر فعالية، كما تبدو عاجزة بانقساماتها الفئوية عن تكوين وجود سياسي وازن عبر الانتخابات النيابية يمكّنها من تعبئة المسؤولين والمواطنين لبناء الدولة المدنية الديمقراطية.
ما العمل؟
آن الاوان لتقوم القوى الوطنية والتقدّمية بعملية تقييم موضوعي ونقد ذاتي صارم لتجربتها السياسية وصولاً الى اعتماد نهج في التفكير والتدبير يتوخّى الوحدة والديمقراطية والتصحيح المتواصل لنهج العمل المطلبي والإصلاحي والإنمائي.
الى ذلك، يجب أن تحتاط القوى الوطنية والتقدمية لاحتمال وصول الدولة، نتيجةَ احتدام الصراع على السلطة والمغانم بين أركان الشبكة الحاكمة، إلى حال الفراغ بعد 2017/6/20 الأمر الذي يستوجب مبادرةً مغايرة وفاعلة من قوى التغيير والديمقراطية والتقدّم تقوم على الأسس الآتية:
أولاً: تركيز النضال السياسي على تنفيذ أحكام الدستور، ولا سيما المادة 22 منه، التي تنصّ على إيجاد مجلسين: الأول للنواب منتخب على أساس وطني لاطائفي، والثاني للشيوخ لتمثيل الطوائف.
ثانياً: الدعوة الى إقرار قانون إطار على الأسس الآتية:
أ اعتماد نظام التمثيل النسبي في دائرة انتخابية وطنية واحدة.
ب تكوين مجلس النواب من مئة وثلاثين نائباً، مئة منهم يُنتخبون بموجب لوائح مرشحين مناصفةً بين المسيحيين والمسلمين من دون اعتماد التوزيع المذهبي للمقاعد، ويُنتخب الثلاثون الباقون وفق التوزيع المذهبي.
ج التئام جميع النواب المنتخبين في هيئة مشترعة واحدة للقيام بتشريع قانونين:
– الأول يقضي باعتبار النواب المئة المنتخبين على أساس المناصفة نواةَ مجلس النواب المنصوص عليه في المادة 22 من الدستور، وباعتبار الثلاثين نائباً المنتخبين مناصفةً بين المسيحيين والمسلمين على أساس التوزيع المذهبي للمقاعد نواةَ مجلس الشيوخ المنصوص عليه في المادة عينها.
– الثاني يقضي بتحديد صلاحيات مجلس الشيوخ باعتماد معظم المواضيع المعتبرة أساسية في الفقرة 5 من المادة 65 من الدستور وأهمّها: تعديل الدستور، الحرب والسلم، المعاهدات الدولية، الموازنة العامة للدولة، الخطط الإنمائية الشاملة، إعادة النظر في التقسيم الإداري للدولة، قانون الانتخابات، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية.
ثالثاً: تتقدّم الحكومة بمشروع قانون أو عشرة نواب باقتراح قانون لوضع تشريعٍ متكامل للانتخابات يلحظ المبادئ والأحكام المبيّنة أعلاه بغية إقراره في مجلس النواب. وفي حال تعذَّر ذلك لأيّ سبب من الأسباب، ولا سيما في حال الفراغ المحتمَل في السلطة التشريعية، تدعو القوى الوطنية والتقدّمية ومَن يحالفها الى إجراء استفتاء عام على قانونٍ للانتخاب يتضمّن الأسس المبيّنة آنفاً على أن يُصار الى تنفيذ أحكامه بواسطة حكومة وطنية جامعة.
آن الاوان لاضطلاع القوى الوطنية والشعبية الحيّة بنضال موصول من أجل التغيير والإصلاح الحقيقي بلا إبطاء وبلا هوادة..