لبنان… من تحرير الأرض إلى تحريرالسوق والعقل

د. عادل سمارة

فاجأنا لبنان بمستوى آخر من المقاومة بعد المقاومة المسلّحة، في المواجهة التي قامت بها حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان. وأحدث محاولة هي منع فيلم للمجنّدة الصهيونية «المرأة الخارقة»، والنجاح في ذلك حتى الآن، علماً أن المحاولة والتصدّي هما الأهمّ، إضافة إلى نشاطات أخرى.

التطبيع، أو لنقل بشكل أدقّ استدخال الهزيمة، ليس بالآفة الجديدة في الحياة السياسية الفلسطينية. فهي ظاهرة مرضية بدأت مع نفر قليل ما قبل اغتصاب فلسطين، تورّط فيها فلسطينيون وعرب وتواصلت بعد الاغتصاب عبر عضوية «الكنيست»، ثمّ اتفاق التسوية «أوسلو»… إلخ.

لا يمكن معالجة ونقد مشكلة التطبيع بعيداً عن كونها ظاهرة تمسّ فلسطينيين وعرباً، لأن الصراع هو في جوهره عربي ـ صهيوني. وأيّ موقف يعتبره فلسطينيّ فقط هو موقف يفتح بطريقة أو أخرى على تبرير تطبيع عربي مع الكيان.

إن الحراك الذي تمّ في لبنان ضدّ فيلم المجندة الصهيونية هو صفعة بامتلاء للمطبّعين في لبنان. وهو ما يجب أن نبني عليه وندعمه ونتعلم منه نحن في الأرض المحتلة لأنّ غربالنا في هذا الأمر تملؤه الثقوب.

لا يسع المرء سوى الاستغراب من الذين يرمون إشكالية التطبيع على السلطة! والسلطة تقول بوضوح إنها متقيدة باتفاقات والاتفاقات تطبيع بلا مواربة. لذا يكون السؤال: ماذا عن القوى وماذا عن كل فرد؟

هل يسأل كل شخص منّا نفسه في حياته اليومية كم موقف أو كم حدث يمارس هو فيها التطبيع. من قال أن بوسع أيّ سلطة إرغامنا على استهلاك ما نرفضه؟ حتى سلطة الاحتلال المباشر قبيل وخلال الانتفاضة الأولى لم تتمكن من إرغامنا على وقف مقاطعة بضائعها، ولذا، تمت مقاطعة العمل في البنية الاقتصادية للعدو كمبادرة من العمال الفسطينيين، وتبعت ذلك مقاطعة منتجات العدو على مستوى شعبي، وهي الخطوات التي فتحت مجالاً لبناء أوّليّ لاقتصاد أو للتنمية بالحماية الشعبية في سابقة لم تعرفها تجربة النضال الفلسطيني. أي هي مبادرة شعبية.

أطرف ما حصل حينذاك ما قاله إسحق رابين الذي كان وزير الحربية الصهيوني آنذاك حين قال مستغرباً: «نحن نشغلهم ونطعمهم ويضربوننا بالحجارة» هذا اقتطاف بالمعنى وليس حرفياً . وقوله هذا ينمّ عن عقلية مركَّبة من مكوّنات استشراقية انثروبولوجية عنصرية وقووية معاً.

في هذا الصدد كتبت روزا لكسمبورغ قبل قرن: «بإمكان المستعمِر إرغام الناس على العمل في المناجم، لكنه لا يستطيع إرغامهم على شراء منتجاته». وكرّر ذلك كثيرون من خبراء الاقتصاد السياسي وخصوصاً بربارا برادبي في أميركا الجنوبية.

الاستهلاك بحجمه الأكبر أي الذي يُشغِّل السوق المحلي في أيّ بلد، هو الاستهلاك الشعبي/الجماهيري لا استهلاك نخبة ولا حتى الطبقة البرجوازية، وهو ما أكده كثيرون من خبراء الاقتصاد السياسي لأن النخبة أو الطبقة البرجوازية محدودة العدد، فمهما استهلكت من الضروري والترفي لا يمكن للسوق أن يشتغل معتمداً على استهلاكها فقط. هذا ما يجب أن نركّز عليه حين نتحدّث عن التطبيع والمقاطعة، لا الانحصار في إدانة الغير.

التطبيع مسألة موقف ووعي وقرار، وهو في التحليل الأخير أمر بين الشخص ونفسه. لأنّ كلّ شخص هو الذي يعلم إن كان يُقاطع منتجات الأعداء أم لا، منتجات الكيان والأنظمة/ الدول العربية المعترفة بالكيان والدول الأخرى. إنه أمر أشبه ما يكون بالإيمان بالله بمعنى أن الشخص هو الذي يعرف إن كان إيمانه شكلانياً أم عقلانياً إيمانياً حقيقياً، فالناس لا يعلمون.

لعلّ أكثر خدمة وتغذية للتطبيع هي في تصنيع الخلاف على تعريف التطبيع حيث نسقط في مسألة لغوية مصطلحية بحتة. ولذا يكون سَوْق الأمثلة هو الأفضل. فمثلاً: حين يقول فلسطيني إنّه ضدّ التطبيع ومع المقاطعة، وفي الوقت نفسه يقول: «نحن مع دولة ديمقراطية للجميع»، «استمع لعضو في المجلس الوطني الفلسطييني تنادي بالتحرير وبدولة ديمقراطية للجميع!». كيف يكون الأمران معاً، خصوصاً أن العدو يشتري أرضاً في العراق!

استمع للفيديو المرفق من «آخر طبعة» يوم 1 حزيران 2017 على قناة «الميادين» https://youtu.be/pDs6Uomg8b8

وموقف السيدة في الفيديو يتقاطع مع موقف كثيرين يدعون إلى دولة واحدة في فلسطين. بل قبل شهرين نصب بعضهم لافتة كبيرة على مدخل رام الله تطالب بـ«الدولة الواحدة»! ويلفت النظر كذلك لدعاة دولة واحدة حتى مع المستوطنين. استمع إلى فيديو الدكتور ربحي حلوم: http://www.knooznet.com/?app=article.show.11957

هذا الموقف الذي لم يردّ عليه الدكتور سماح إدريس في حلقة «آخر طبعة» ربما لأنّ المجال لا يسمح بمناكفات، لكن أخطر ما في هذا الموقف أنه استلهام لأطروحات اليهود الوسطيين بل الخبثاء الذين يحاولون تجاوز اغتصاب الوطن وبالتالي يجرّوننا إلى مربّع اللحظة مقطوعة عن التاريخ.

لعلّ أخطرهم هو المؤرّخ إيلان بابيه الذي توصّل إلى أنّ ما يدور ضدّ الفلسطينيين هو «تطهير عرقي». ولكن التطهير العرقي له شرطه الأساس وهو أن يكون للطرفين المتصارعين أو ربما العرقين، إن جاز التعبير، حقّ في الأرض بغضّ النظر عن نسبة الحق. وهذا الشرط لا ينطبق على الاستعمار الاستيطاني الرأسمالي الأبيض اليهودي. ليسوا شركاء في الوطن بأيّ حال. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّ التطهير العرقي يحصل في وقت ومساحة وينتهي أو تتمّ صفقة ما. لكن في الحالة الفلسطينية، فنحن بدأت قضيتنا بصراع اقتلاعي جغرافياً واقتصادياً وطبقياً وثقافياً، وسكّانياً… إلخ ولا يزال مشروع الإمحاء أو الاقتلاع متواصلاً.

يصبح من الواجب الوقوف ومباركة خطوة اللبنانيين كي تصل التجربة إلى كافة أنحاء العالم العربي، الطبقات الشعبية العربية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى